الحديث الثامن والثلاثون
أخبرنا ابن عمي العبد الصالح السيد سيف الدين عثمان، قال: حدثني أبوك السيد علي بن يحيى الرفاعي صاحب المشهد المنور بالجانب الشرقي من بغداد، قال: حدثني ابن عمي السيد حسن، قال: حدثني السيد يحيى، قال: حدثني السيد ثابت، عن أبيه السيد علي الحازم، ويكنى بأبي الفوارس، عن أبيه السيد علي، عن أبيه السيد رفاعة الحسن المكي، عن أبيه السيد أبي القاسم محمد، عن أبيه السيد الحسن الرئيس، عن أبيه السيد الحسين عبدالرحمن الرضي المحدث، عن أبيه السيد أحمد الأكبر، عن أبيه السيد موسى، عن أبيه السيد إبراهيم المرتضى، عن أخيه الإمام علي الرضا صاحب طوس، عن أبيه الإمام موسى الكاظم، عن أبيه الإمام جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمد الباقر، عن أبيه الإمام زين العابدين علي، عن أبيه الشهيد المظلوم الإمام الحسين، عن أبيه أمير المؤمنين علي المرتضى رضي الله عنه، وعنهم أجمعين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمّا أُسري بي إلى السماء رأيت رحماً معلقة بالعرش تشكو رحماً إلى ربها أنها قاطعة لها، قلت: كم بينك وبينها من أب؟ قالت: نلتقي في أربعين أباً" [1].
وفي هذا الحديث الشريف من الإلزام للعبد بالرحمة، ما يقيد نفسه عن جموحها، إذا أدرك وكان من الموفقين، وقد بلغني عن بعض العارفين أنه كان يقول في مناجاته: إلهي بأرحام اتصلت، وبقلوبٍ بك اشتغلت.
أي بني، اعلم أن المحبين في طرائق العبودية، وأوقات المناجاة، على أصناف شتى، فمنهم من ناجاه على لسان الاعتذار، ومنهم من ناجاه على لسان التحير والاضطرار، ومنهم من ناجاه على لسان الطرب والافتخار، ولو علم أهل الغفلة ما فاتهم في كل نفس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في مناجاته: " إلهي إذ قرت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقر عيني بك، واقر عيني بلذائذ أنسك، والشوق إلى لقائك" [2]، وكذا يقول مَن يحب: يا خير مؤنس وأنيس، يا خير صاحب وجليس، طوبى لمن اكتفى منك بك، اللهم لبيك لبيك يا حبيب القلوب، لبيك يا سرور القلوب، لبيك لبيك يا منى القلوب، لبيك اللهم آليت بك عليك، أن لا تصرفني بك عنك، ولا تحجبني بك عنك.
إلهي لو دعوتني إلى النار لأجبتك، وافتخرت بك، فكيف وقد دعوتني إلى نفسك، إلهي إن قربتني منك، فمن الذي يبعدني، وإن أعززتني بك فمن الذي يذلني، وإن رفعتني إليك فمن الذي يضعني، إلهي مَن أرهب وأنت مولاي؟ ولمن أرجو وأنت مناي؟ وبمن أستأنس وأنت جليسي؟ فبك عليك أن تتفضل بإتمام فضلك، يا نعم المولى ونعم النصير، إلهي سِرِّي عندك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، وأنت بالجود معروف، وبالكرم موصوف.
إلهي أنت أنيس المستأنسين من أحبائك، ومأوى الموهوبين من أصفيائك، وجليس الملهوفين من أوليائك، إلهي ما أطيب معرفتك في قلوب العارفين، وما أحلى ذكرك في أفواه الذاكرين، وما أحلى مودتك في أسرار المحبين، إلهي أنت الذي لا تبطل أمل الآملين، لا يخفى عليك أحوال المريدين، ولا يخيب لديك رجاء المنيبين.
إلهي أنت سروري إذا نظرتُ منك إليك وأنت حسبي إذا استكفيتُ بك منك، وأنت أنيسي إذا نزلتُ منكَ بك، اللهم ارحم انقطاعي إليك، وانفرادي بك ووحشتي [3] عمن سواك، فيا خير مؤنس وأنيس، ويا خير صاحب وجليس، كن دليلي منك وإليك، إلهي اجعل أجلَّ العطايا في قلبي حياءك، وأعذب الكلام على لساني ثناءك، وأحب الساعات إليَّ ساعةً يكونُ فيها لقاؤك.
إلهي ما أوحش قلباً ليس فيه ذكرك، وما أخرب قلباً ليس فيه خوفك، وما أقل سروراً ليس في حبك، إلهي لا صبر لي في الدنيا عن ذكرك، فكيف أصبر في الآخرة عن رؤيتك؟
إلهي أشكو إليك غربتي في بلادك، ووحشتي بين عبادك، إلهي ما لمرادنا غيرك، ولا لبغيتنا دونك، وما لحاجتنا سواك، إلهي هذه لذائذ المناجاة، فكيف لذائذ الملاقاة؟ إلهي هذا شكري، وشكر شكري، إلهي هذا سروري وسرور سروري، إلهي هذا ودي وود ودي، إلهي أُنسي بك أوحشني من خلقك، ومعرفتي بك تمنعني عن مناجاة غيرك.
إلهي كيف أشغل لساني بذكر غيرك، أم كيف أشغل بصري برؤية غيرك، أم كيف أشغل قلبي بحب سواك، وأنا لا أعرف غيرك؟ إلهي، على من أُثني وأنت وليي، ومَن أرجو وأنت مُناي؟ يا خير معروف مذكور، أعززتني بولاية معرفتك، فلا تذلني يا سيدي بعدها بمَن سواك، إلهي عجبت ممن يعرفك كيف لا يستغني عمن سواك، إلهي عجبتُ ممن أنس بك كيف لا يستوحش من غيرك؟
إلهي عجبت لمن أرادك كيف يريد سواك، إلهي هذا سروري بك في دار الفناء، فكيف سروري بك في دار البقاء؟ إلهي هذا سروري بك في قراطق [4] الخدمة، فكيف سروري بك في غلائل [5] النعمة؟ إلهي هذه لذائذ المحبة، فكيف لذائذ الرؤية؟ إلهي هذه لذائذ المؤانسة، فكيف لذائذ الزيارة؟ إلهي مَن لم يكن مسروراً بك فمن أي شيء يكون له سرور؟ إلهي سقيتني بكأس الحب حتى أسكرتني، فالحب يقتلني والشوق يُحرقني، إلهي أريتني حبك، فأرني وصلك، إلهي طال بك حسن ظني، على أن لا تردني خائباً فلا تخيب ظني بك، يا معروفاً بالمعروف، إلهي ليس لي عنك صبر، ولا فيك حيلة، ولا منك بد، ولا عنك مَهرب، ولا مع سواك أُنس.
إلهي أحييتني بمعرفتك، فلا تُمتني بنكرتك، إلهي أريتني وصالك، فلا تُرني فراقك، إلهي إن لم تفعل ما نريد، فصبرنا على ما تريد، إلهي فرِّغ قلبي لذكر عظمتك، وأطلق لساني بوصف منتك، وقوني على شكر نعمتك، إلهي ارحمني فأنا عاجز عند النصب، جاهل بالسبب، حيران في الطلب، إلهي جعلت سبب ما تعطي رجاءك، وسبب ما يجمع بين أوليائك تأليفك بين قلوبهم.
إلهي فأعطني المرجو كما وهبت الرجاء، واجمع بيني وبين أوليائك، كما ألفت بين القلوب، كيف يفتقر مَن أنت حظه، أم كيف يستوحش من أنت أنيسه، أم كيف يذل من أنت حبيبه، أم كيف يحزن من أنت نصيبه؟ إلهي همك أبطل عني الهموم وحبك حال بيني وبين الرقاد، وشوقي إليك منعني اللذات، وأُنسي بك أوحشني عمن سواك.
إلهي أنت تُوالي مَن يعاديك، فكيف تُعادي مَن يواليك؟ إلهي معرفتي بك دليلي عليك، وحبي لك وسيلتي إليك، إلهي عرف المحبون كمال ربوبيتك، والمذنبون صنيعك، وكمال قدرتك، فاستسلموا وانقادوا لك، إلهي اجعلني ممن لا يتخذ دونك خليلاً، ولا يلتمس إلى سواك سبيلاً، ولا يرجو من غيرك فتيلاً [6]. إلهي لا تجعلني ممن صرفت عنه وجهك، وحجبت عنه عفوك، وأغلقت عليه بابك، وقطعت عنه أسباب عصمتك، ووكلته إلى نفسه، إنك على كل شيء قدير.
قال مالك بن دينار: رأيت جارية متعلقة بأستار الكعبة تقول:
إليك جئنا وأنت جئت بنا وليس شيء سواك يُحيينا
منكَ طلبنا وأنت تملِكنا وليس شيءٌ سواك يؤتينا [7]
[1] عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الرحم معلقة بالعرش تقول: مَن وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله" رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرحم شجنة من الرحمن تقول: يا رب إني قُطعت، يا رب إني أُسيء إليّ، يا رب إني ظُلمت، يا رب.. فيجيبها: ألا ترضين أن أصل مَن وصلك، وأقطع مَن قطعك؟. رواه أحمد بإسناد جيد قوي. وابن حبان في صحيحه [ الترغيب والترهيب للمنذري (ابن كثير وشركته) رقم 3708 و 3711 وشجنة: قرابة مشتبكة.
[2] من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين الأبد، ومرافقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد" [ إحياء علوم الدين ( دار المعرفة) 1/319] قال الحافظ العراقي في المغني: أخرجه النسائي في اليوم والليلة، والحاكم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه دون قوله: " وقرة عين الأبد" وقال صحيح الإسناد، والنسائي من حديث عمار بن ياسر بإسناد جيد: " وأسألك نعيماً لا يبيد، وقرة عين لا تنقطع". ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: " اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخَلق، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهديين ] إحياء 1/320[ قال الحافظ: أخرجه النسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد، من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما.
[3] الوحشة (بفتح الواو وسكون الحاء) الخلوة، والخوف، والوحشة من الناس: الانقطاع عنهم وبُعد القلب عن موداتهم، والفعل: وَحِشَ يَوحَش بكسر الحاء في الماضي وفتحها في المضارع (من الباب الرابع).
[4] قراطق الخدمة: ملابسها، مفردها: قُرطق: كجندب، وقرطقته إياه فتقرطق: ألبسته إياه فلبسه [ القاموس المحيط (القُرطق)].
[5] الغلائل: جمع الغِلالة (بكسر الغين) وهي ثوب رقيق يُلبس تحت الدثار" [ المعجم الوسيط].
[6] الفتيل: الخيط الذي في شق النواة.
[7] من المنسرح.