الصفحة الرئيسية > المكتبة الرفاعية > كتاب حالة أهل الحقيقة مع الله > الحديث الرابع

الحديث الرابع

الاثنين 6 يونيو 2011

الحديث الرابع

أخبرنا شيخنا الولي التقي الثقة المُقْري القاضي أبو الفضل علي الواسطي القرشي بمدرسته في واسط، قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد، قال: أنبأنا علي أبو طاهر الحسن بن الوزير أبي القاسم علي بن صدقة بن علي، قال: أنبأنا أبو المطهَّر سعد بن عبدالله الأصبهاني، قال: أنبأنا أبو نعيم أحمد بن عبدالله بن أحمد الحافظ، قال: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن جعفر بن فارس، قال: أنبأنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، قال: أنبأنا أبو داود الحضري، قال: أنبأنا ابن الربيع عن نعيم بن حنظلة، عن عمار بن ياسر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذو الوجهين في الدنيا ذو لسانين في النار" [1] ولهذا صرف العارفون وجوههم إلى الله تعالى فلن ترى للعارف وجهين أصلاً ومن هذا السر أُمروا بعدم الجمع بين أستاذين، وقالوا: إذا وُجد الأكمل الأفضل في طريق الله تعالى، الأصح اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى المريد أن يتمسك به، بل على كل مَنْ كان يزعم المشيخة أن يلتحق به هو وأولاده في الطريق، وهذا ضربٌ من أعظم أضراب المعرفة بالله.

أي سادة، اعلموا أن العارفين على أصناف مختلفة، ومناهج متفاوتة، ومراتبَ متلوّنة، وأنواعٍ متفرقة، ومنازلَ متنوعة، فمنهم مَنْ عرف الله بالقَدْرِ فخافه، ومنهم من عرفه بالفضل فأحسن الظن به، ومنهم مَنْ عرفه بالمراقبة فاعتقد الصدق، ومنهم من عرفه بالعظمة فاعتقد الخشية، ومنهم مَنْ عرفه بالكفاية فاعتقد الافتقار إليه، ومنهم من عرفه بالفرادنية فاعتقد الصَّفوة، ومنهم مَنْ عرفه به فاعتقد الوصلة، فوُجِدَ أن الخوف على قدر عرفان القدرة، ووُجْدان حسن الظن على قدر عِرْفان العظمة، ووجدان الافتقار على قدر عرفان الكفاية، ووجدان الصَّفوة على قدر عرفان الفردانية، ووجدان الوصلة على قدر عرفان الربِّ تعالى، وكذلك أهل السموات في العبادة على مقامات، فمقام بعضهم الحياءُ والحُرْمة، ومقام بعضهم القُرْبةُ والمُؤَانسة، ومقام بعضهم رؤيةُ المِنَّة، ومقام بعضهم المراقبة، ومقام بعضهم الهيبة، كما قال الله تعالى: ( وما مِنّا إلا له مقامٌ معلوم) [2]، فأهل المعرفة عامَّتُهم يعرفونه على سبيل الخبر في التوحيد عن الصادق الأمين، سيدنا وسيد العالمين محمد صلى اللهُ عليه وسلم، فصدَّقوه بقلوبهم وعملوا بأبدانهم، إلا أنهم دنَّسوا أنفسهم بالذنوب والمعاصي، فعاشوا في الدنيا على الجهل والتقصير، فهم على خطرٍ عظيم، إلا أن يرحمَهم أرحمُ الراحمين، وأناسٌ فوقهم يعرفونه بالدلائل، وهم أهل النظر والعَقْل والفِكْر، أيقنوا بالتوحيد من قِبَلِ الدلائل والآثار وآيات الربوبية، استدلوا بالشاهد على الغائب، واستيقنوا صحّة الدلالة، فهم على طريق حسن، إلا أنّهم عاشوا محجوبين عن الله تعالى برؤية دلائلهم، وخواصُّ أهل المعرفة من أولي اليقين، عرفوه به سبحانه، فوقفوا متمكِّنين مع معرفتهم، لا تَخْطَفُهم الأدلّة، ولا تصرفهم العِلّة، دليلهم رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم، وإمامُهم القرآن، ونورهم يسعى بين أيديهم، فمن عرفه تعالى بالخبر، كمَثَلِ إخوة يوسف، إذ عرفوا لونه وغفلوا عنه حتى افتضحوا بين يديه، حيث: (قالوا إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل) [3] ومن عرفه بالدلائل كمَثَلِ يعقوب، إذ عرف أن يوسف يُعَدُّ في الأحياء فازداد حُزناً وبكاء، واحتمل ما احتمل من أنواع البلاء، حتى ابيضَّت عيناه من الحزن عِلْماً منه بحياته، وشوقاً إلى لقائه، حتى قال: (اذهبوا فتحسَّسُوا من يوسف)، وقال: (إنّي لأجد ريحَ يوسف)، حتى قال مَنْ غفل عنه : (قالوا تاللهِ إنَّكَ لفي ضلالِكَ القديم) [4] وقالوا: (تفتؤُا تذكُرُ يوسُفَ) [5] الآية، ومَثَلُ مَنْ عرفه به، كبنيامين [6] حين أخذه يوسف لنفسه، فقال: يا أخي أمشاهدتي تريد أم الرجوع إلى أبيك؟ قال: بل مشاهدتك أريد، قال: فإن أردتني فاصبر على مِحْنتي، قال: نعم أحتمل لأجلك كل بلوى، أليس أني أبقى معك ولا أفارقك، ثم أخرج الصاعَ من وعائه، ونسبه إلى السَّرِقة، حتى عابه أهلُ مصر على ذلك ولاموه، وشتمه إخوته، وهو في ذلك كلِّه مسرورٌ ضاحكٌ في سِرِّه، ولم يَخَفْ من لومة اللائمين، فهذا مَثَلُ مَنْ عرفه من أهل اليقين.

وقال شيخ الطائفة الإمام الحسن البصري [7] رضي الله عنه: أهل المعرفة في الدنيا على ثلاث منازل، رجل لقي العبادة فعانقها وخلط بها لحمَه ودمَه، وفزع إليها قلبُه، وعًلِمَ أن الله تعالى رازقُه وكافيه، فوثِقَ بوعده فلم يشغل نفسه بشيء من أمور الدنيا، جعل السماء سقفه، والأرضَ بساطه، ولا يبالي على يُسرٍ أصبح أم على عُسر، أمسى يعبد الله تعالى حتى يأتيَه اليقين، فهذا الضرب في الدنيا أعز من الكبريت الأحمر. ورجل آخر لم يصبر كما صبر الأول، فطلب كِسْرَةً من حِلِّها [8]، يقيم بها صُلْبَهُ، وخِرْقة يواري بها عورته، وبيتاً يسكنه، وزوجة يستعفُّ بها، وهو مع ذلك شديد الخوف عظيم الرجاء، فهو على طريق حسن وأما الثالث فإنه لا يصدق الله بقوله، فيبني القصرَ المشيد، ويركب المركب الفَرِهَ [9]، ويستخدم الخدم، فليس له في الآخرة من خَلاق [10]، إلا من يرحمه أرحم الراحمين.

رأيت في بعض الأخبار: أن عيسى بن مريم عليه السلام مرَّ بنفر من الناس، قد نحلت أبدانهم، وتغيرت ألوانهم، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الخوف من النار، فقال: حق على الله أن يُؤَمِّنَ [11] الخائف، ثم بلغ إلى نفر آخر، فإذا أبدانهم أشد نحولاً، وألوانهم أشد تغيراً، فقال: ما الذي بلغ بكم ؟ قالوا: الشوق إلى الجِنان، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما ترجون، ثم مر حتى بلغ نفراً ثالثاً فإذا أبدانهم أشد نحولاً وألوانهم أشد تغيراً، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الحب لله والشوق إليه، فقال لهم عيسى عليه السلام : أنتم المقرَّبون، ثلاث مرات، فأهل المعرفة ثلاث أصناف، صنف يمشون على قدم الافتقار والاضطرار، وصنف يمشون على قدم الاعتبار والانكسار، وصنف يمشون على قدم الافتخار والاستبشار، قال الله تعالى: (فمنهم ظالمٌ لنفسه) [12].

والناسُ في مشهد المعرفة على مرتبتين، إما في يقظة المعرفة فهم في تربية الولاية فينظرون الكرامة، وإما في نوم الفضلة فهم في تربية العداوة، فهم ينظرون الأمانة، إلا أن يرحمهم أرحم الراحمين. فسبحان مَنْ خَصَّ مِنْ عبيده مَنْ شاء وأعطاهم ثم دعاهم إلى نفسه بفضله حيث قال: (وأنيبوا إلى ربكم) [13]، فأجابوه وأنابوا إليه، فهم على أصنافٍ شتى، فالتائبون يمشون برِجْل الندامة على قدم الحياء، والزاهدون يمشون برجل التوكل على قدم الرضا، والخائفون يمشون برجل الهيبة على قدم الوفاء، والمحبون يمشون برجل الشوق على قدم الصفاء، والعارفون يمشون برجل المشاهدة على قدم الفناء، فالمعرفة طعامٌ أطعمه الله مَنْ شاء من عباده، فمنهم مَنْ يذوقه ذوقاً، ومنهم مَن يأكل منه بلاغاً، ومنهم مَن يأكل منه كَفافاً، ومنهم مَن يأكل شِبَعاً، والناس في المعرفة على منازل، فمنهم من يكون منزله كشِعْب، ومنهم مَن يكون كقرية، ومنهم من يكون كمِصْر، ومنهم من يكون منزله منها كالدنيا والآخرة. رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أخرجوا مِن النار مَن قال لا إله إلا الله وفي قلبه حبة خردل من الإيمان" [14].

وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه [15]، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وما ذلك إلا حقيقة المعرفة، فيقول لهم الرب تعالى: أنتم عبيدي حقاً، فقد طال شوقكم إليّ، وشوقي إليكم، السلام عليكم عبيدي، فها أنا حبيبكم، فبعزتي ما خلقتُ الجنة إلا من أجلكم، فلكم اليوم ما شئتم.

وحُكي أن مالك بن دينار [16] وثابتاً البناني [17] رحمهما الله، دخلا على رابعة البصرية [18] فقالت لمالك: أخبرني لم تعبد ربك؟ قال: شوقاً إلى الجنان، فقالت لثابت : وأنت يا غلام؟ فقال: خوفاً من النيران، فقالت: أنت يا مالك مثل أجير السوء لا يعمل إلا طمعاً، وأنت يا ثابت مثل عبد السوء، تعمل خوفاً من الضرب، فقالا: وأنتِ يا رابعة، فقالت: حباً لله تعالى، وشوقاً إليه.

وحُكيَ أن ذا النون المصري رضي الله عنه كان يعظ الناس ذات يوم وهم يبكون، وفيهم شابٌّ يضحك، فقال له: ما لك يا فتى؟ فقال ينشد ويقول:

كلُّهم يعبدون من خوف نارٍ ويرون النجاة حظاً جزيلا

أو بأن يسكنوا الجنان فيُضحوا في رياضٍ عيونها سلسبيلا

ليس في الخلد والجِنان هوائي أنا لا أبتغي بحبّي بديلا


[1أبو داود: الأدب ، باب في ذي الوجهين 4873 والهيثمي في موارد الظمآن (مؤسسة الرسالة) 2/879 (الأدب، باب ذي الوجهين) برقم 1979 وحسّنه ابن حبان (صحيحه 5756) والترغيب والترهيب (طبعة ابن كثير وشركائه ط1) 3/568 رقم 4350. ورواه بسندين آخرين ضعيفين وبلفظين مقاربين في 4349 و 4351، وروى نحوه السيوطي في الجامع الصغير (دار الفكر) 1/667 برقم 4345، وحسّنه، والهيثمي في مجمع الزوائد (الفكر) 8/179 ( الأدب: باب الوجهين واللسانين الباب 126 (13151 – 13154 ) وأبو نعيم في حلية الأولياء 2/160 وابن أبي الدنيا في الصمت 282 والطبراني في الكبير 1697 و 9168 والأوسط 6278.

[2سورة الصفات: 164.

[3سورة يوسف: 77.

[4سورة يوسف: 95.

[5سورة يوسف: 85.

[6هو شقيق يوسف بن يعقوب عليهما السلام ، وأمهما راحيل بنت لابان (بنت خال يعقوب) وسائر إخوة يوسف عليه السلام إنما هم إخوته لأبيه فقط ، هكذا ذكر الحافظ ابن كثير في قصص الأنبياء (الفكر) 267.

[7الحسن بن يسار البصري ، أبو سعيد 21-110 هـ، من أفضل التابعين وأعلمهم، كان يقول: " شر الناس للميت أهله يبكون عليه ولا يهون عليهم قضاء دَيْنَهُ " (طبقات الشعراني 1/38). وكان الإمام الغزالي يقول: " كان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء".

[8أي طلب قليلاً من حلالها.

[9من الفراهة وهي الجمال والحسن. والفره ، هو البطر.

[10خلاق: نصيب.

[11ومن أسماء الله تعالى: المؤمن، لأنه سبحانه " منبع كل أمن وتصديق، فكل مَنْ يدخل في حصنه فهو آمن.. فهو المؤمّن من كل خوف "الدكتور ضياءالدين الجماس: التفكُّر في الأسماء (دار الهجرة ط1) ص 110 وما بعدها".

[12سورة فاطر 32.

[13سورة الزمر :54.

[14عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن بُرّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذَرّة من خير". قال أبو عبد الله (البخاري): قال أبان: حدثنا قتادة: حدثنا أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (من إيمان) مكان: (من خير) [ البخاري: الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، رقم 44، ومسلم: الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 193] وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يخرج مِن النار مَن كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" أخرجه الترمذي (في صفة جهنم ، الباب العاشر، رقم 2601 وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) وفي رواية ذكرها رزين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان "[جامع الأصول لابن الأثير (المبارك بن محمد 544-606 هـ) (ط 2 دار الفكر) 9/357 رقم الحديث 700].

[15مسلم: الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان 8 والترمذي: الإيمان، باب ما جاء في وصف جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان 2613 وأبو داود في السنة، باب في القدر 4695 والنسائي: الإيمان، باب نعت الإسلام 8/97.

[16مالك بن دينار، من رواة الحديث، بصري ورع، مات سنة 131 هـ.

[17ثابت بن أسد البناني. كان يقول: إن أهل الذكر يجلسون للذكر وعليهم من الذنوب أمثال الجبال، فيقومون وليس عليهم ذنب واحد (الطقات الكبرى للشعراني 1/47).

[18أم الخير رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية ، ماتت بحدود 180 هـ، واقرأ إن شئت تاريخ شعراء العربية لمحمد حسني مصطفى، العصر العباسي الأول، العدد التاسع (رابعة العدوية)،، وفيه: لقد أحبّت (رابعة) رب العالمين جل جلاله ، وتجردت لعبادته ، وأيقنت أنه أهلٌ أن يُعبد، طمعاً برضاه وجنته، واتقاءً لعذابه، حتى لو أنه عزّ وجل ما جعل ثواب المتقين جنة، وعذاب العاصين النار، لكان يستحق أن يُعبد ؛ لجلال وجهه، وعظيم صفاته، وإحسانه الذي لا يُحَد، وآلائه الغامرة" ((رابعةالعدوية ص6) وهذا يحتاج الذين يتعرضون لهذه الفكرة إلى دقة بالغة لدى التعبير عنها؛ فإن العلامة أبا العباس أحمد بن زروق يقول تعظيم ما عظم الله مُتعيِّن واحتقار ذلك ربما كان كفراً [ قواعد التصوف (مكتبة الكليات الأزهرية ط2 ) 136].

أي رسالة أو تعليق؟


مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.