الحديث الثالث والثلاثون
أخبرنا شيخنا القاضي المقري القدوة الشيخ أبو الفضل علي الواسطي رضي الله عنه، قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن علي، قال: أنبأنا عمر بن أحمد، أنبأنا شاهين، قال: أنبأنا عبدالله البغوي، قال: أنبأنا عبدالله بن عمر القواريري، قال: أنبأنا زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النميري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: (اللهم بارك في رجب وشعبان وبلغنا رمضان) [1].
في هذا الحديث الشريف معانٍ كثيرة، منها طلب فسحة الأجل لصالح العمل، ليكون العمر الله، والعمل فيه لله، وكذلك مقاصد العارفين بالله، الوارثين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا حال أهل التقوى.
أي بني، اعلم أن التقوى على وجهين: خاص وعام، فأما التقوى الخاص فالاتقاء بالسر عن الهِمّة والمُنْية من غير ذات الله تعالى، حيث قال الله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته) [2]، وأما التقوى العام فالاتقاء بالظاهر عن جميع ما كره الله تعالى، قال الله سبحانه (ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته) [3]، والله تعالى جعل الفَرَجَ والمخرَجَ من الهموم، واليُسر والسَّعة في التقوى، لقوله تعالى: ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً) [4]، وقوله تعالي: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) [5] الآية.
قيل في معناه: ومن يتق الله في أداء الطاعة، يجعل له مخرجاً من غبار الذنوب والزلات، ويرزقه النجاة من العقوبات، من حيث لا يحتسب. ومعنى آخر: ومن يتق الله عند الإنابة بالحُجة، يجعل له مخرجاً من شِدّةِ المحاسبة، ويرزقه سلامة الدارين من حيث لا يحتسب. ومعنى آخر: يجعل له مخرجاً من جميع الاشتغال بغير الله، ويرزقه حياة طيبة، من حيث لا يحتسب. ومعنى آخر: من يتق الله بترك المحارم والشبهات، يجعل له مخرجاً من الإرادات والشهوات، ويرزقه حلاوة الطاعة من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله عند قول الحق، ولا يخاف لومة لائم، يجعل له مخرجاً من مكر الناس ومكائدهم، ويرزقه الظَّفَر من حيث لا يحتسب، ومَن يتق الله بترك التعلّق بغير الله يجعل له مخرجاً من عبودية ما سواه، ويرزقه الصدق والإخلاص من حيث لا يحتسب.
يروى أن أبا هريرة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: يا أيها الناس إني جعلت نسباً، وأنتم جعلتم نسباً، إني جعلت أكرمكم أتقاكم، وأنتم جعلتم أكرمكم أغناكم، وإني أرفع اليوم نسبي وأضع نسبكم، فأين المتقون، اليوم لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون" [6]
وقال صلى الله عليه وسلم : " الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور متشابهات، لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات سلم دينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" [7] فـ " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" [8].
وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا، ما قبل منكم إلا بورع صادق. وقال وهب بن منبّه [9]: مَن وضع شهواته تحت قدميه، فرَّ الشيطان من ظله، ومن غلب عقلُه هواه فذاك الصابر الغالب.
وقيل لرجل من أهل التقوى: من أين جئت؟ قال: ما سؤالك عن شيء لا ينفعك معرفته، ولا يضرك جهله، فاشتغل بما يعنيك عما لا يعنيك، فقيل له: ما رأس التقوى؟ قال: أن تحفظ نفسك من الشهوات، وحلقك من اللذات، وقلبك من الغفلات.
وقال: اتق الله الذي آخذ آدم بلقمة، وموسى بلطمة، وداود بنظرة، ويوسف بهِمّة، ونوحاً بدعوة، ومحمداً بخطرة، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال عبيد بن عمير [10]: لا ينبغي لمن تزين بلباس الورع والتقوى أن ينظر إلى زهرات الدنيا، ويتكلم بما لا يعنيه.
وقال جعفر الخلدي [11]: بلت في أصل حائط، فهتف بي هاتف: تدَّعي التقوى وتبول في أصل حائط غيرك؟
وحُكي أن ابن المبارك [12] ارتحل من مَرْوَ إلى الشام، من أجل قلم كان قد استعاره فلم يرده إلى صاحبه، وفي الخبر: لا تفضلوا أحداً على أحد إلا بالورع والتقوى، لأنهما أفضل الأعمال.
وقال أُبيّ بن كعب رضي الله عنه [13] ما من أحد ترك شيئاً لله إلا آتاه الله ما هو خير له منه من حيث لا يحتسب. وقال ابن سيرين [14]: حرامٌ على كل قلب فيه حب الدنيا أن تسكن فيه التقوى. وقال عمر بن عبدالعزيز [15] رحمه الله: القليل من الورع، خير من صلاة أهل الدنيا.
ورُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: إلهي خلقتَ آدم بيدك، وأدخلته الجنة، وفعلت به ما فعلت من الإحسان، ثم أخرجته منها بزلة واحدة. فقال: يا موسى أما علمت أن جفاء الحبيب شديد، ما يحتمل من الأعداء.
ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ ولكنَّ التقيَّ هــــو السعيدُ
[1] ضعيف وهو في مسند أحمد (مسند ابن عباس رضي الله عنهما 3/2346 وحقه أن يثبت في مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو من زيادات عبدالله بن أحمد. ومجمع الزوائد (الفكر) 2/375 رقم 3006 وقال الهيثمي: " رواه البزار وفيه زائدة بن أبي الرقاد. قال البخاري: منكر الحديث، وجهّله جماعة" والمعجم الأوسط للطبراني، رقم 3939.
[2] سورة آل عمران: 102.
[3] سورة الطلاق: 5.
[4] سورة الطلاق : 4.
[5] سورة الطلاق: 2.
[6] إتحاف السادة المتقين 9/210 [ موسوعة أطراف الحديث لمحمد زغلول (عالم التراث 3/644].
[7] البخاري: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، رقم 52 والبيوع، باب: ( الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشبّهات) 1946 ومسلم في المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم 1599.
[8] صحيح. أخرجه الترمذي في صفة القيامة، الباب 61 رقم 2520 والنسائي: الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات 8/327 و 328 وأحمد في المسند (حديث الحسن بن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم 2/1727 وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم 10/12488. وانظر النسائي 8/230 (القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم).
[9] وهب بن منبّه الصنعاني الذماري: مؤرخ من التابعين ( 34 – 114 هـ).
[10] عبيد بن عمير المكي، من وعاظ مكة، من التابعين، توفي سنة 68 هـ.
[11] جعفر بن محمد 253 – 348 هـ. شيخ الصوفية في أيامه ببغداد.
[12] عبد الله بن المبارك المروزي (118 – 181 هـ) صاحب الزهد، والجهاد، وهما كتابان في الحديث النبوي.
[13] أبي بن كعب الأنصاري الخزرجي: من علماء الصحابة ومجاهديهم رضوان الله عليهم. توفي سنة 21 هـ.
[14] محمد بن سيرين البصري (33-110 هـ).
[15] أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز بن مروان، أبو حفص، الخليفة الصالح (61 -99 هـ).