الحديث السابع عشر
أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقري الإمام الشيخ علي أبو الفضل القرشي الواسطي رضي الله عنه، قال: أنبأنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري، قال: أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص، قال: أنبأنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، قال: أنبأنا مالك بن الخليل أبو غسان، قال: أنبأنا ابن عدي، عن أشعث، عن الحسن، عن عمران بن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" [1].
جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم التطيُّر المرتبة الثالثة، بعد ترك الاكتواء والاسترقاء، وهذه مرتبة الخُلَّص من أهل الانمحاق عنهم وعن كونهم في مراد الله تعالى رحمهم الله ما أقلهم في كل عهد، فإن رتبتهم التحقق بالتوكل على الله تعالى، توكلاً تنطوي فيه الأسباب والمرادات، وأولئك هم العارفون بالله حقا رضي الله عنهم.
يا هذا لو أن العالم فريقان، فريق يروحني بمراوح من نَدّ [2]، وفريق يقرض جسمي بمقارض من نار، لا ازداد هؤلاء عندي ولا نقص هؤلاء، اعلم أن مَن عرف الله حق معرفته، تلاشت همته تحت سرور وحدانيته، ولا شيء من العرش إلى الثرى أعظم من سرور العارف بربه، والجنة بكل ما فيها في جنب سروره بربه أصغر من خردلة، لِما عَلِمَ أنه أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، فمن وجده فأي شيء لا يجد، وبأي شيء يشتغل بعده، وهل رؤية غيره إلا من خساسة النفس، ودناءة الهمة، وقلة المعرفة به، وهل يكون لباسٌ أجملُ من لباس الإسلام، أو تاج أجلّ من تاج المعرفة، أو بساط أشرف من بساط الطاعة.
قال الله تعالى: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيلفرحوا) [3].
قال إبراهيم بن أدهم في بعض مناجاته: إلهي إنك تعلم أن الجنة وما فيها لا تزن عندي جناح بعوضة بعدما وهبت لي معرفتك، وآنستني بك، وفرَّغتني للتفكر في عظمتك، ووعدتني النظر إلى وجهك، نعم إن أدنى منازل العارف أن الله تعالى لو أدخله النار، وأحاط به العذاب، لم يزدد قلبه إلا حباً وأنساً به وشوقاً إليه.
قال ابن سيرين [4] لو خُيِّرت بين الجنة وركعتين تخيَّرت الركعتين، لأن في الركعتين رضاء الله تعالى، والقرب منه، وفي الجنة هوى النفس، ومحبةُ الناس.
قيل: لما أُلقي الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار و: (قالوا حرِّقوه وانصروا ءالهتكم) [5] قال: حسبي ربي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
قال تعالى: ( يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) [6].
وروي أن الله تعالى أوحى إليه: يا إبراهيم أنت خليلي وأنا خليلك، فلا تشغل قلبك بدوني فتنقطع الخُلَّةُ بينك وبيني، لأن الصادق في دعوى خُلَّتي: من إذا أُحرق بالنار لم يتحول قلبه عني إلى غيري إجلالاً لحُرمتي، وذَكَرَ الله تعالى ذلك في كتابه بقوله: ( إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) [7] فعرف صدقه في التسليم حتى أُلقي في النار.
قال أبو عبد الله بن مقاتل في مناجاته: إلهي لا تدخلني في النار فإنها تصير برداً علي من حبي لك. قال أيوب السختياني [8]: إنما يخاف النار من نسي مولاه فيقال لهم: ( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا) [9] مع ثواب أعماله.
قال أبو حفص [10]: إني لأخاف على معرفة قوم يكون على جباههم مكتوباً "عتقاء الله" بعد إخراجهم منها، يسألون الله رفعَ تلك العلامة عنهم، ولو كنت أنا لسألته أن يكتب ذلك على جميع أعضائي، ويكفيني فخراً أني من عتقائه، وأنا أقول: إنما الحاصل للمريد في الجنة من الجنة هو الرب تعالى، وقربه ونظره، واستماع كلامه، أما ترى امرأة فرعون إذ قالت( رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة) [11] كما يقال: الجار قبل الدار. قال إبراهيم بن أدهم: إني لأستحي أن يكون غاية همتي
مخلوقاً، وقد قال الله تعالى لبعض أنبيائه: من أرادنا لم يرد سوانا.
قال بعض المشايخ: رأيت شاباً في المسجد الحرام، قد أثَّر فيه الضر والجوع، فأدركتني الرحمة عليه، وكان معي مائة دينار في صُرة، فدنوت منه وقلت: يا حبيبي اصرف هذا في بعض حوائجك، فلم يلتفت إليّ، فألححتُ عليه، فقال: يا شيخ هذه حالةٌ لا أبيعها بالجنة وما فيها، وهي دار الجلال ومعدن القرار والبقاء، فكيف أبيعها بثمنٍ بخس.
قال أبو موسى الدبيلي خادم أبي يزيد: سمعت شيخاً ببسطام يقول: رأيت في منامي كأن الله تعالى يقول: كلكم تطلبون مني، غير أبي يزيد فإنه يطلبني، ويريدني وأنا أريده.
قال أبو عبد الله: اتخِذِ اللهَ جليساً وأنيساً، والزم خدمة مولاك تأتك الدنيا وهي راغمة، وتطلبك الآخرة وهي عاشقة، وقال: يا طالب الدنيا دع الدنيا تطلبك، ويا طالب الآخرة، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء قدير؟ قال أبو سعيد الخراز [12]: كنت بالموقف، فهممتُ أن أسأل الله شيئاً فهتف بي هاتف: بعد الله تسأل غير الله.
وكتب رجل إلى أخ له: أما بعد فاضرب بالدنيا وجهَ عشاقها، وبالآخرة وجه طلابها، واستأنس برب العالمين، والسلام. قال أبو عبد الله النسّاج [13]: لا تستكثر الجنة للمؤمن، فإنه قد وافى لله تعالى بما هو أكثر قدراً من الجنة وهو المعرفة.
وصلى رجلٌ من العارفين على جنازة فكبَّر خمساً، فقيل له في ذلك فقال: كبرت أربعاً على الميت، وواحدة على الدارين. وحكي أنه قرئ بين يدي أبي يزيد (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) [14] قال: فأين من يريد المولى؟
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بماذا بلغت هذه المنزلة حتى سبقتنا؟ فقال: بخمسة أشياء، أولها: وجدت الناس صنفين، طالب دنيا، وطالب عقبى، فكنت أنا طالب المولى، والثاني: منذ دخلت الإسلام ما شبعت من طعام الدنيا، والثالث: ما رويت من شراب الدنيا، والرابع: إذا استقبلني عملان، عمل للدنيا، والآخر للعقبى، اخترت عمل الآخرة على عمل الدنيا، والخامس: صحبت النبي عليه الصلاة والسلام، فأحسنتُ صحبته، فقال له عليّ: هنيئاً لك يا أبا بكر.
[1] صحيح. رواه مسلم في الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، رقم 218 وحلية الأولياء ( عن خباب رضي الله عنه) [ كنز العمال (الرسالة) 5701] وعنه الطبراني في الكبير 18/169 و 183 ومسند أبي عوانة (بيروت) 1/87 وانظر كنز العمال 5699 و 5700. وأخرج الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن ربي أعطاني سبعين ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر: يا رسول الله، فهلا استزدته؟ قال: " قد استزدته فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفا" قال عمر: فهلا استزدته؟ قال: " قد استزدته فأعطاني هكذا" وفرَّج عبد الله بن بكر (وهو أحد شيوخ ابن حنبل، وعنه روى هذا الحديث) بين يديه، وقال عبد الله: وبسط باعيه، وحثَا عبدالله. وقال هشام (بن حسان، وهو شيخ عبد الله بن بكر): وهذا من الله لا يُدرى ما عدده) [ مسند أحمد ( حديث عبدالرحمن بن أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) 1706] ورواه أحمد بن محمد البنا الدمياطي عن الإمام أحمد وعن البزار والطبراني وتحدث عن الأعمال الموجبة لذلك" [ الذخائر المهمات (مطبعة البهاء بحلب 1328 هـ = 1910م ) 215 ] وروى نحوهم الترمذي في صفة القيامة، باب: يدخل الجنة من هذه الأمة سبعون ألفاً دون حساب برقم 2439 وأحمد أيضا برقم 22204.
[2] الندّ: عُود الطِّيب.
[3] سورة يونس: 58.
[4] محمد بن سيرين البصري (33-110 هـ).
[5] سورة الأنبياء: 68.
[6] سورة الأنبياء: 69.
[7] سورة البقرة: 131.
[8] أيوب بن كيسان السختياني البصري، أبو بكر (ت 131 هـ).
[9] سورة السجدة: 14.
[10] أبو حفص: عمر بن مسلمة الحداد، مات سنة نيف وستين ومائتين.
[11] سورة التحريم: 11.
[12] أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز ( ت 277 هـ).
[13] محمد خير النساج (محمد بن إسماعيل) توفي سنة 322 هـ.
[14] سورة آل عمران: 152.