الصفحة الرئيسية > المكتبة الرفاعية > كتاب حالة أهل الحقيقة مع الله > الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون

الأربعاء 15 يونيو 2011

أخبرنا شيخنا الإمام فرد الوقت الباز الأشهب خالي أبو المكارم منصور البطايحي الرباني رضي الله عنه، قال: أنبأنا القاضي أبوالحسين محمد بن علي بن المهتدي، قال: أنبأنا أبوالحسن علي بن هبة الله بن عبدالسلام، قال أنبأنا أبوالحسين أحمد بن محمد، قال: أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد الحربي، قال: أنبأنا أبو عبدالله أحمد بن علي عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحُبي" [1] وبهذا الحديث الشريف نظام التصفية، فمن أدركها فقد أدرك الصفاء، والتحق بأهل الاصطفاء.
أي بني، اعلم أن للصفاء ظهراً وبطناً، فأما ظهرها فأن تصفي كليتك من أدناس النفس، والخَلق والدنيا، وأما بطنها فأن تصفي كُلِّيَّتك من غبار رؤية الأعمال، وطلب الأعواض على الأعمال، والالتفات منه إلى ما سواه، رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إسرارَكم إسرارَكم، فإنه عند الله بواد" [2]. ويقال: جديدُك مع الله لا تُخلِقه مع

الناس، وصفاؤك مع الله لا تكدره مع الناس. وقال يحيى بن أبي كثير [3] دخلت مكة فاستقبلني عطاء بن أبي رباح [4]، وسلم علي، ثم أقبل على الناس فقال: تسألوني عن العلم وفيكم يحيى بن أبي كثير قال: فتضرعت إلى الله أربعين يوماً إلى أن يُذهب حلاوة هذه المقالة من قلبي.

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن أواني الله في الأرض هي القلوب، فأحب الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها [5]، معناهُ أصفاها لله عند المراقبة، وأصلبها في دين الله عند المخاطبة وأرقها على الإخوان عند الموافقة. وقال يوسف ابن الحسين لما اشتغل قلب مريم بحب ابنها، سمعت صوتاً: لما كان سرك صافياً لنا، كنا نرزقك في الشتاء والصيف من غير واسطة ولا شدة عناء، فلما ميَّلتِ سرك عني فلا يأتيك رزقك إلا بشدة، وذلك قوله تعالى: (وهزي إليك بجذع النخلة) [6] الآية. وقال أبو محمد الجريري [7] اعلم أن العبد إذا لم يُصْفِ وقته لله تعالى في إقامة العبودية، انقطع عن الله وهو لا يشعر، فمن اجتهد في صفاء معاملة الظاهر، أورثه الله صفاء معاملة الباطن، ومعنى قوله: "انقطع عن الله وهو لا يشعر" قول أبي يزيد: مَن ظن أنه بالحال يصل فبالحال ينقطع، ومن طلب الأنس بالحال فبالحال يستوحش.

قال أبو محمد الجريري: إن الله تعالى حكم على أصفيائه وأحبابه، أن لا يخرجوا من الدنيا إلا وطوق العبودية في أعناقهم، وبحق أقول: ما اشتغل أحد بغيره إلا ضاع عمره، وذهبت عنه صفاوة الوقت، فمن أراد صفاوة الوقت فليؤثر الله على شهوته.

وقيل لواحد: ما حقيقة صفاوة الوقت؟ فقال: تصفية الكُلية، لخلاّق البرية، بوفاة صدق العبودية. قال الأنطاكي [8] إن وجدت رَيناً [9] في قلبك فأدم الصيام، فإن وجدت رَيناً فأقِل الكلام، فإن وجدت رَيناً فاترك الآثام، فإن وجدت رَيناً فأكثر البكاء والتضرع إلى الملك العلاّم. ويقال: الجهل كله موت إلا من يرزقه الله العلم، والعلم كله حُجة إلا من وفقه الله للعمل به، والعمل كله هباءٌ منثور، إلا أن يكون صافياً لله، وأهل الصفاء على خطرٍ عظيم، إلا أن يسلموا ذلك إلى الله تعالى بلا عيب، ويجب على العبد أن ينظر في حال أكله وشربه ولباسه وكلامه وحركاته وإرادته، فيدعَ منها ما كدر، ويأخذ ما صفا، لأن صفاوة الأوقات على قدر صفاوة الأحوال.

قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) [10]. وقال ذو النون: إن لله عباداً يبلغون في درجة الصفاء مقاماً تقع فراستهم على سرّ الناس، فيعرفون السعداء من الأشقياء، يختص برحمته من يشاء من عباده.

وقيل لأبي عبدالله: ما فضل أهل الصفاء على غيرهم؟ قال: رفع الحجاب عنهم، واتهام الوشاة فيهم، وإفشاء الأسرار إليهم. قيل: هل يكون لأهل الصفاء حلاوة العبادة؟ قال: أما قبل رؤية المِنَّة فنعم، وأما قبل رؤية العبادة فلا، بلا تعليق.

وقيل لبعضهم: متى يعرف الرجل أنه من أهل الصفاء؟ فقال: إذا ستر جميع المعاصي بستر التوبة، وستر جميع الخيرات بذكر ستر المِنَّة، وستر ما دون الله بستر الله تعالى.

وحُكي أن بهلولاً [11] كان لا يأخذ شيئاً من أحد، وإن أُكثر عليه الإلحاح، فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن لا نأخذ بالواسطة، لأن منها ذهاب الصفاء. قيل: وما الصفاء؟ قال: طيران القلب بأجنحة الاشتياق لرب العالمين.

ويقال: أدنى أوصاف أهل الصفاء عيش القلب مع الله بلا علاقة، ومَن لم يعرف نفسه بالفقر، والفاقة والعجز والضعف، لم ينل صفوة اليقين، وإذا كان العبد لله تعالى كأن لم يكن، يكون الله تعالى له كما لم يزل.

وقال أبو سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى.

وقال الإمام معروف الكرخي [12] رضي الله عنه: بينا أنا أسير في البادية، ولم يكن معي أحد من البشر، إذ نزل شخصٌ من السماء، فسألني ما الصفاء؟ فقلت: صدق الوفاء. فقال: صدقت، ثم عرج وهو يقول: ( يوفون بالنذر ويخافون) [13].

أما ترى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وضع قدماً بصدق الوفاء على صخرة صماء، فأمر الله تعالى أن اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.

وحقيقة الصفاء. التخلق بخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بأصحابه أولي الصدق والوفاء، والانقطاع إلى الملك الأعلى، وقيل: حقيقة الصفاء طرح القلب على بساط الامتنان، واستقامة السر مع الملك الديّان. وقيل: تصفية القلوب لعلام الغيوب. وقيل: صدق الافتقار مع دوام الاضطرار، وترك الاختيار مع حسن الانتظار.

وقيل: فناء الكلية تحت كمال القدرة، وطيران الهِمة بأجنحة الشوق نحو رب العزة. وقيل: هجرة السر إلى الله من المراتب والدرجات، والفرار إلى الله من المنازل والمقامات. وقيل: هي مجانبة دواعي النفس، ومتابعة دواعي الروح، وإخماد صفات البشرية تحت صفات الربوبية.


[1الترمذي: المناقب، مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، رقم 3792 وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. والحاكم في المستدرك، كتاب معرفة الصحابة (ومن مناقب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) 3/150 وصححه، ووافقه الذهبي. كلاهما عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[2(2) قال الله تعالى: ( وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور) [ الملك 14 ] وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدنيا مللعونة، ملعون ما فيها، إلا ما ابتُغي به وجه الله رواه الطبراني بإسناد لا بأس به. وعن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صام يرائي فقد أشرك، ومن صلى يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك رواه البيهقي [ في شعب الإيمان 6844 وأحمد في المسند 4/126 والأصبهاني في الترغيب 118 والقرطبي في تفسيره 11/71. وهو حديث حسن] [ حديثا أبي الدرداء وشداد من الترغيب والترهيب للحافظ المنذري (ابن كثير وشركاؤه) 1/61 و 80 برقم 10 و 43 ] وقال عمر ابن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه: " سرائركم بينكم وبين ربكم" [ مسند أحمد (صادر) 1/41].
وإسراركم: مفعول لمحذوف تقديره: راقبوا أو احفظوا أو طهروا..

[3من علماء التابعين، ومن قدماء الصوفية.

[4عطاء بن أسلم بن صفوان (27-114 هـ)

[5أخرج الطبراني من حديث أبي عتبة الخولاني يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها" [ المغني عن حمل الأسفار لزين الدين العراقي (دار المعرفة) 3/15 وكنز العمال: الإيمان والإسلام، الباب الثالث برقم 1207].

[6سورة مريم: 25.

[7أحمد بن محمد الجريري توفي سنة 311 هـ [ الرسالة القشيرية 82].

[8أحمد بن عاصم الأنطاكي، أبو على [ الرسالة القشيرية ص 62 الترجمة 20] أو أبو محمد عبد الله بن حنيف الأنطاكي [ طبقات الشعراني 1/83 الترحمة 158].

[9رين: قسوة وفساد ودنس.

[10سورة الشعراء 88 و 89

[11) بهلول بن عمرو الصيرفي، أبو وهيب، توفي سنة 119 هـ، قال الشعراني في الطبقات 1/68 (الترجمة 138) وكان (بهلول المجنون) رضي الله عنه ينشد:

دع الحرصَ على الدنيا وفي العيش فلا تطمعْ

ولا تجمع من المالِ فما تدري لِمَن تجمعْ

فإن الرزق مقسومٌ وسوء الظن لا ينفعْ

فقيرٌ كلُّ ذي حِرصٍ غنيٌّ كل مَن يقنعْ

[12معروف بن فيروز الكرخي، أبو محفوظ، توفي سنة 200 هـ.

[13سورة الدهر: 7.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.