الحديث التاسع والعشرون
أخبرنا خالي وسيدي أبو المكارم منصور الرباني البطايحي الأنصاري الواسطي رضي الله عنه قال: حدثني السيد الشريف حسن بن عسلة الرفاعي برواق أبي في أم عبيدة، قال: حدثني النقيب السيد يحيى الرفاعي، قال: حدثني أبي السيد ثابت، قال: حدثني أبي السيد علي الحازم الرفاعي، قال: حدثني أبي السيد علي أبو الفضائل، قال: حدثني أبي السيد الكبير رفاعة الحسن المكي الحسيني، نزيل إشبيلية، قال: حدثني أبي السيد محمد أبو القاسم، عن أبيه السيد الحسن القاسم، عن أبيه السيد حسين عبدالرحمن الرضي المحدث القطيعي، عن أبيه السيد أحمد الأكبر، عن أبيه السيد موسى، عن أبيه الأمير السيد إبراهيم المرتضى، عن أخيه الإمام علي الرضا، عن أبيه الإمام موسى الكاظم، عن أبيه الإمام جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمد الباقر، عن أبيه الإمام علي زين العابدين، عن أبيه الإمام الحسين الشهيد بكربلاء، عن أبيه أمير المؤمنين علي المرتضى، عن ابن عمه سيد المرسلين، وأشرف المخلوقين نبينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حدثني جبريل عليه الصلاة والسلام، قال: حدثني رب العزة سبحانه وتعالى قال: كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمِنَ من عذابي" [1].
هذا الحديث القدسي الذي وصل إلينا بالسند النبوي فيه من إعظام شأن كلمة التوحيد، ما يزيد العبد إيماناً، ويملؤه عرفاناً، ويلزمه بالمداومة على الذكر بهذه الكلمة، التي هي روح التوحيد، وما على قائلها بعد الإيمان بمبلِّغها صلى الله عليه وسلم من بأس، وكونها آخذة بالعبد إلى الافتقار إلى الله تعالى، والانقهار تحت عظمة فردانيته، فلذلك صارت حصناً للعبد بإذن الله تعالى.
أي بني، اعلم أن الغنى والفقر صفتان: صفة لله، وصفة للعبد، فصفة الفقر للعبد، وهو [2] صفة مدح، كما أن صفة الغنى لله، وهو صفة مدح، والفقر بالحقيقة صفة العبد، إذ لا يشوبه غنى، والغنى بالحقيقة صفة الرب، إذ لا يشوبه فقر، وإن أشرف صفات العبد افتقاره إلى الله في كل شيء كما أن أشرف صفات الرب استغناؤه عن العبد في كل شيء قال الله تعالى: ( والله غني وأنتم الفقراء) [3]، و(يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) [4].
واعلم أن الافتقار إلى الله مقسومٌ على النفس والروح والقلب والسرّ، ففقر النفس إلى الله تعالى يكون على سبيل القرب والرضاء، وفقر السر إلى الله تعالى على سبيل المشاهدة واللقاء، فكلما رأى العبد نفسه متحيرة على باب عهده ووفائه، رجع بالافتقار إلى باب عفوه، وكلما رأى روحه متحيرة على باب وده ومحبته، رجع بالافتقار إلى باب عنايته.
ومن حقيقة الافتقار الاستكفاء بالكافي، وطرح النفس السقيمة بين يدي المعافي. وأيضا حقيقته انتظار السبب من المسبب مع رؤية السبب، والاشتغال بالمسبب مع نسيان السبب. وأيضا من حقيقته دوام التبصبص [5] والاعتذار، بلسان صدق الافتقار، مع غاية الانكسار، ومن حقيقته تخليص الأسرار من رؤية الأعمال، وترك الاعتماد على حسن الحال، ومن حقيقته أن لا ينصرف العبد عنه بخلقه ولا بملكه.
قيل لأبي عبد الله بن مقاتل: متى يكون العبد غنياً محتاجاً وهو في غناه وحاجته محمود؟ قال: إذا كان غناه بالله عن خَلقه، وحاجته إلى ربه. قال الشيخ أبو بكر الواسطي: إن العبد لا يعرف لله حق معرفته، حتى يعرف الفاقة الكبرى، قيل: وما الفاقة الكبرى؟ قال: أن يعلم أنه لم يهتد إلى ربه إلا به، ولا ينجو من سخطه إلا به. ويقال: الافتقار لواء أهل الولاية. ويقال: الافتقار طرح النفس بين يدي الرب، كالصبي الرضيع بين يدي الأم.
ويقال الافتقار فراغة في رعاية، ورعاية في ولاية، وولاية في عناية، وعناية في هداية، فمن لا فراغة له لا رعاية له، ومن لا رعاية له لا ولاية له، ومن لا ولاية له لا عناية له، ومن لا عناية له لا هداية له.
أي بني، اعلم أن الخَلق بأسرهم فقراء محتاجون إلى الله تعالى، أسرّاء تحت مشيئته، ضعفاء تحت علمه وقدرته، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، ولا ذلاً ولا عزاً، ولا موتا ولا حياة، منصوبون بين سهام النعمة والرخاء، موقوفون بين القطيعة والشقاء، مستورة عنهم خواتيمهم، لهم الخوف والرجاء، والفقر والدعاء، والتضرع والبكاء، فما أفقر من هذه صفته، وما أضعف من هذه حالته.
واعلم أن الافتقار أجل مراتب المحبين، وأرفع منازل المنيبين، وأزلف [6] حالات المريدين، وأعظم آلات الأوابين [7] وأجلَّ مقامات التائبين، وأعلى وسائل المقربين، وهو أصل العبودية، وصدر الإخلاص، ورأس التقوى، ومخ الصدق، وأساس الهدى، فمن أراد أن يدخل في عُصبة أهل الافتقار، فينبغي أن لا يهتم بمصلحة نفسه وعياله، وأن يتملق بين يدي الله تعالى، وأن يكون آيساً مما سوى الله، مع الافتقار إلى الله تعالى، كرجل يكون في بئر مظلمة، ورأس البئر مسدود، وأثره مستور، وليس له في البئر مؤنس، ولا للخلق على رأس البئر ممر، فهل يكون رجاؤه وافتقاره إلى أحد دون مولاه؟
وحكي أن رجلاً من الصالحين وقع في بئر في البادية وكان ضريراً ، فمرت على رأس البئر قافلة، فناداهم الرجل من قعر البئر، فهتف هانف: أيستغيث بغيري وأنا غياث المستغيثين، قال: فسكت الرجل، فإذا أهل القافلة سدّوا رأي البئر، وأرادوا أن يُخفوه [8] كي لا يقع فيه أحد، فصار الرجل آيساً من نفسه، وانقطع رجاؤه عن الخلق، ثم قال: إلهي الآن لم يبق لي غيرك، وأنا فقير إليك، فسلط الله أسداً حتى فتح رأس البئر، وهبط فيه، فأخذ الرجل بذنب الأسد، فرفعه إلى رأس البئر، فنودي من فوقه: لا تقطع قلبك عمن ينجيك بتلفٍ مَن تلف.
واعلم أن الله وضع تحت قوله (إياك نعبد) [9] كمال وفاء صدق العبودية، ثم علم كمال ضعف العبد وعجزه، فأعطاه كلمة أخرى وجمع له خير الدارين، وهو قوله تعالى: ( وإياك نستعين) [10] فكل حق الله تعالى على العبد، تحت قوله (إياك نعبد)، وكل فقر للعبد إلى الله تعالى تحت قوله (وإياك نستعين).
وقيل: إن أعرابياً وقف بالموقف [11] فقال: إلهي إليك خرجت وأنت أخرجتني، ولك وقفت وأنت أوقفتني، وقد عصيت أمرك، وأنت خذلتني، ومع ذلك لا عذر لي ولا حجة، فإن رحمتني وعفوت عني، فأنت أهل الإحسان، ولا فقير لك أفقر مني يا سيدي ويا مولاي.
واعلم أن الله تعالى كلَّف العباد صدق الافتقار، كيلا يتجاوزوا حد العبودية إلى حد الربوبية، ومن الإرادات العقلية إلى الإرادات الهوائية، ومن الصفاوة الروحية إلى الكدورة النفسية، ومن الهمم العلوية إلى الهمم السفلية.
قال الله تعالى لنبيه الأعظم عليه الصلاة والسلام: (ليس لك من الأمر شيء) [12]، وقال سبحانه: ( قل إن الأمر كله لله) [13] وقال: ( بل لله الأمر جميعاً) [14] وقال: ( ألا له الخلق والأمر) [15]، نعم صلاح العبد بالافتقار، نعم الاستعانة بالمستعان، نعم سبب الوصول إلى طريق الهداية واللحوق بأهل الولاية الافتقار.
[1] أخرجه ابن عساكر (2/85) عن علي رضي الله عنه [ كنز العمال 1/158 و 1769] وابن النجار عنه وعن أنس رضي الله عنهما [ كنز 1/235] وزين الدين المناوي في الإتحافات السنية (الزعبي) ص 73 رقم 166 وقال: رواه أبو نعيم وابن النجار وابن عساكر عن علي رضي الله عنه. وانظر في الإتحافات الحديث 165. ورواه الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين (دار المعرفة) 1/167 وقال الحافظ العراقي " أخرجه الحاكم في التاريخ وأبو نعيم في الحلية من طريق أهل البيت من حديث علي بإسناد ضعيف جداً، وقول أبي منصور الديلمي: " إنه حديث ثابت" مردود عليه".
[2] أي الفقر.
[3] سورة محمد صلى الله عليه وسلم: 38
[4] سورة فاطر: 15.
[5] التبصبص: التملق [ انظر القاموس المحيط (مؤسسة الرسالة) مادة بصبص (الهامش) وأساس البلاغة (دار المعرفة 23). والمراد هنا: الاسترضاء والاعتذار.
[6] أزلف: أقرب.
[7] الأواب: التائب، من آب يؤوب إذا رجع.
[8] تعود الهاء في (يخفوه) و (فيه) و (فوقه) إلى كلمة رأس. أما (بئر) فمؤنثة.
[9] سورة الفاتحة: 5
[10] سورة الفاتحة: 5
[11] في عرفات.
[12] سورة آل عمران: 128.
[13] سورة آل عمران: 154.
[14] سورة الرعد 31.
[15] سورة الأعراف: 54.