الصفحة الرئيسية > المكتبة الرفاعية > كتاب حالة أهل الحقيقة مع الله > الحديث الثالث والعشرون
الحديث الثالث والعشرون
الأربعاء 15 حزيران (يونيو) 2011
أخبرنا شيخنا الشيخ الكبير العارف بالله تعالى القاضي المُقري أبو الفضل علي الواسطي رضي الله عنه قال: أنبأنا أبو الحسين عاصم بن الحسن بن المقري، قال: حدثنا أبو عمر عبدالواحد بن محمد، قال: أنبأنا مهدي بن إسماعيل بن محمد الصفار، قال: أنبأنا محمد بن عبيدالله المناوي، قال: أنبأنا شبابة يعني ابن سوار، قال: أخبرنا شعبة ابن علقمة بن مزيد، عن سعيد بن عبيدة، عن أبي عبدالرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" [1]. هذا الحديث الشريف يفيد أن الخيرية قد صحت لمن تعلم القرآن وعلمه، لما في القرآن العظيم من بالغ الحِكَم، وغامض السر، وخطير الشأن، وهو حبل الله الأعظم، به يهتدي المهتدون، ويصل الواصلون، وهو خُلُقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وباب الله تعالى، والمعجزة الدائمة، والنور الذي لا ينحجب، وعنه تأخذ أرواح العارفين أسرار المعرفة، وما المعرفة التي لم ترجع إليه، ما هي إلا زورٌ وضلالة ، ومتى تحقق العبد بالعلم بالقرآن العظيم، فقد صار عارفاً، وانكشفت له الأسرار الربانية، المُلكية والملكوتية، ومتى صار عارفاً حَنَّ وأنَّ، وطلب زيادة العلم بالله من كل طريق ومن كل فن، وكل الطرق والفنون في القرآن العظيم، والعارفون هم الراسخون بالعلم يقولون آمنا به، وإليه منتهى سير هِمَمِهِم، وعنه يصدرون، وبه
يهيمون، ومنه يأخذون، ولذلك يقال فيهم: ندماء الحق، وبهذا السر يفرِّقون بين الباطل والحق.
أي بني، اعلم أن الله تعالى ربما يَزِينُ أعداءه بلباس أوليائه وأصفيائه، حتى إنهم يغترون بصفاء الأوقات، ويحسبون أنهم من أهل ولايته، فهذا من الله لهم استدراج، وربما يزينهم بالعز والجاه والرياسة والمنزلة عند الناس، حتى يغتروا بثناء الناس ومحمدتهم، ويُحسبوا من أهل فضله، فهذا أيضاً من الله استدراج لهم، وكذلك ربما يزينهم بأنواع لطائف الحكمة، فيغترون بحسن بلاغتهم، وكمال فهمهم وفطنتهم، ويحسبون أنهم أحاطوا بكل حقيقةٍ علماً، فهذا لهم من الله استدراج، وربما يزينهم بلباس النعمة، ويغرقهم في أنواع النعم، فيغترون بحسن تجملهم، وطيب عيشهم، ويحسبون أنهم علي شيء من الله فهذا لهم من الله استدراج، ولا يتركهم حتى يردهم إلى حقيقة معلومة، قال سبحانه: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) [2] فهذا ما كدر عيش المريدين في دار الدنيا، حتى دام كمدهم، واصفرت ألوانهم، وذابت نفوسهم، ودهشت عقولهم، وطارت أفئدتهم، وانشقت مراراتهم، وفقدوا من الخلائق، وواجب على كل حال ذي عقل ومعرفة أن يحذَر مولاه، كما حذّر نفسَه بقوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه) [3] وكما قال: (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) [4].
وقال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن لا يسكن اضطرابه، ولا تأمن روعته، حتى يخلف جسر جهنم" [5]، إلا أن الله تعالى غيَّب مكره في حِلمه، وخداعه في لطفه، وعدلَه في كرمه، وخِذلانه في أنواع نِعمه، وسخطه في جميل سَترِه، وقطيعته في إمهاله، فينبغي للعبد أن لا يعتمد حسن أوقاته، وكثرة حسناته، فكم من أحد تراه في زي المريدين، وهو في علم الله من المطرودين، ولا يشعر أن الله تعالى ربما يزين عدوه بلباس أوليائه ثم يرده آخر الأمر إلى بُعده، وربما يكسو وليّه لباس الأعداء، ثم يردّه آخر الأمر إلى حقائق كرمه، لأنه هو يبديء ويعيد، يعني: يبديء على أوليائه صفات أعدائه، وعلى أعدائه صفات أوليائه، ثم يعيدهم إلى حقائق معلومة، وهو الفعّال لما يريد، بإظهار فضله في أهل عدله، وإظهار عدله في أهل فضله، ألا ترى أن الله تعالى زيَّن إبليس بزينة عصمته، وهو في سابق علمه من أهل اللعنة، ستر عليه ما سبق منه إليه، حتى أظهر أمره في العاقبة، وكذلك زيَّن "بلعام" [6] بأنوار ولايته، وهو عند الله تعالى من أهل سخطه، وأغرق قارون في بحار نعمته، وهو عند الله تعالى من أهل سخطه. لا يغرنك بالله أربعة أشياء: إظهاره لك ما تعلم، وستره عليك بما قد عملت، وزيادته لك فيما لم تشكره، وإعطاؤه إياك ما لم تسأله، فإنه ربما أراد الله تنبيهاً لك أو استدراجاً.
وقال يوسف بن الحسين [7] من رأى صنع الربوبية عند إقامة العبودية انقطع عن نفسه، واعتصم بربه، وفوض أمره إليه، فحيئنذ يسلم من آفات الاستدراج.
وكان يحيى بن معاذ يقول: يا معشر المستورين بالنِّعم والعِصَم، ولا تغتروا فإن تحتها آفات النقم، لا تغتروا بعمارة الأوقات، فإن تحتها غوامض الآفات، ولا تغتروا بصفات العبودية، فإن فيها نسيان الربوبية، والأمر كما قال: فيا رُبَّ مستدرَجٍ بالإحسان إليه، ويا رُبَّ مغترٍّ بالثناء عليه، ويا رُبَّ مفتونٍ بالنعم عليه ويا رب مستهلك بالستر عليه، فمن لم يكن باطنه في ملازمة الحق تعالى عينَ ظاهره كان شكه أغلب من يقينه، وإن كان ظاهره يدل على أوصاف الموقنين، وفقدان أنوار الباطن من رؤية حركات الظاهر، والغفلة عن غوامض آفات الاستدراج، من رؤية صفاء العبودية [8]، فليس للموفَّق أن يعتمد، ولا للمخذول أن ييئس، واستدراج أهل الذنوب الركون إليها، والإصرار على الإعراض عن الله سبحانه، واستدراج أهل العلم طلب الجاه والمنزلة عند الخلق، واستدراج أهل الاجتهاد الاستكثار والإعجاب، واستدراج المريدين تطلعهم إلى العطايا والكرامات، وسكونهم إليها، واستدراج العارفين استغناؤهم بالمعرفة دون المعروف حتى جعلوا لها حداً وغاية ونهاية، وظنوا أنهم قد أحاطوا بها، فكل من كانت منزلته أرفع، كان استدراجه أعظم وأدق، كم من مُذكِّرٍ لله ناسٍ لله، وكم من مخوِّفٍ بالله جريءٌ على الله، وكم داعٍ إلى الله بعيدٌ من الله، وكم من تالٍ كتاب الله منسلخٌ من آيات الله.
وقال أبو سعيد الخراز [9] لو كنتَ تركتَ الدنيا وافتخرتَ بتركها، فالفخرُ أعظم من إمساكها، ولو تركتَ عيوبَ النفس وأعجبتَ بتركها، فالعُجبُ عيبه أكبر، ولو جهدتَ [10] وتعلقتَ بجهدك، فتعلقك أعظم الاستراحة، ولو خفتَ وأمنتَ على أنك خفتَ، فالأمن من الخوف أكبر، ثم قال: رؤية القرب في القرب أقرب البُعد، ورؤية الأُنس في الأنس أعظم الوحشة، ورؤية الذكر في الذكر أشد النسيان، ورؤية المعرفة في المعرفة أكبر النكرة.
وقال بعض أهل المعرفة: كلما ظننتُ أني وجدتُ فحينئذ فقدت، وكلما ظننتُ أني فقدتُ فحينئذ وجدت، إلهي إن تركتك طلبتني، وإن طلبتك طردتني، لا معك قرار، ولا مع غيرك أنس، فالمستغاث منك إليك. وقال أبو يعقوب: [11] أجهل ما يكون العبد بالله، إذا ظن أنه استغنى عن الدنيا بالمعرفة.
وقال يحيى بن معاذ: ذنبٌ افتقرتَ به إليه، خيرٌ من طاعةٍ افتخرتَ بها عليه. وكان فضيل كثيراً ما يبكي ويردد هذه الآية: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) [12] ويقول: عملوا أعمالاً حسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات، حين يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
أي بني، المعرفة مستقر ومستودع، مستقر في قلوب الأولياء، ومستودع في قلوب الأعداء، ثم يُسلب في آخر الأمر، فليس للموفَّق أن يعتمد على توفيقه، ويأمن من مكره، ولا للمخذول أن ييئس من رَوح ربه، وربما يرى الرجل للرجل الرؤيا الصالحة، وهو استدراجٌ من الله تعالى، كما حُكي أن رجلاً من أهل الشام أتى إلى العلاء بن زياد [13] وقال له: إني رأيتك في المنام كأنك من أهل الجنة، فترك مجلسه وأخذ في البكاء، وقال: لعل الله أراد أمراً.
قيل: أصل الاستدراج نسيان الحق، والاستغناء بمن دونه، والتعلق بما سواه، والالتفات منه إلى غيره وليس على تحقيق في المعرفة مَن يغتر بكثرة العلم والعمل، لأن إبليس كان معلم الملائكة، ثم في آخر الأمر نظر إلى نفسه وعبادته، وترك أمراً من أوامر الله، فصار من الملعونين المطرودين أبد الآبدين.
وإياك أن تغتر بعمارة الأوقات، وصفاء الأحوال، فإن برصيصاً [14]
وبلعام [15] كانا أعبد الناس في زمانهما، وأحسنهم حالاً، وفي آخر الأمر مالا إلى النفس والهوى، فصارا مفتضحَيْن في الدنيا والآخرة، ولا تغتر بصحبة الصالحين والزهاد بغير الحُرمة والمتابعة لهم، فالصحبة لو نفعت لنفعت امرأة نوح وامرأة لوط، ولأن الاغترار مدرجة من مدارج الاستدراج.
قال الله تعالى: ( فلا تغرنكم الحيوة الدنيا) [16] الآية، وقال تعالى: (يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) [17] وذلك أن الشيطان ربما يأتي الزاهد ليغره، فيقول: يا ولي الله ويا خيرته من خلقه، أما ترى من ربك هذه الكرامات والعطايا والقرب والأنس، أما تدري ما ألهمك ربك من كلام أهل المعرفة، وحقائق أنواع الإشارات، فهل يكون مثل هذا إلا لأهل محبته؟ أما ترى حال قربك معه، وكمال لطفه بك، وأنك لو أقسمت على الله لأبرك، ولا شك أن الملائكة ينظرون إلى حركاتك وسكناتك وحسن أحوالك، وقد رَجَحَ فضلك على أهل زمانك، فما أغفل الناس عما أنت فيه! حتى يغره بأنواع مكره وخديعته، فإن تداركه الله بالفضل والرحمة، وبصَّره بمكائد عدوه، وعرج ملتجئاً بسره إلى سُرادقات قدرته، فعند ذلك يسلم من درجات آفات الاستدراج.
واعلم أن قلوب أهل المحبة لا تزال تموج من خوف الاستدراج [18]، كما تموج البحار، حتى يصير كل ما فيه بالله لله، ورأيت مكتوباً على عصاً واحدة:
كل ذنبٍ لك مغفـــو رٍ سوى الإعـراض عني
فقلت:
إن كنتُ أعرضتُ فقد تبتُ عدتُ إلى الوصلِ كما كنتُ
وليس لي جُرْمٌ سوى أنني نظرتُ في الحُبِّ فعوقبـتُ
[1] صحيح رواه أحمد في المسند (مسند عثمان رضي الله عنه) برقم 405، ولفظه: "أفضلكم مَن تعلم.." وبرقم 412 بلفظ: "خيركم.." و 500 ورواه في مسند الإمام علي رضي الله عنه، عنه برقم 1317. والبخاري: فضائل القرآن، باب: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". رقم 4739، وبلفظ: "إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه" (رقم 4740).
[2] سورة القلم: 44.
[3] سورة آل عمران: 30.
[4] سورة البقرة: 235.
[5] أبو داود: السنة، باب ذكر الميزان 4755.
[6] بلعام بن باعوراء [انظر تفاسير قول الله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه .. ] [ الأعراف 175].
[7] أبو يعقوب الرازي: يوسف بن الحسين، شيخ الري والجبال، وكان نسيج وحده في إسقاط التصنع.. مات سنة أربع وثلاثمائة [ الرسالة القشيرية 78 (الترجمة 34)].
[8] لا بد من مراقبة المرء لنفسه وعرض أحوالها وكل شؤونها على ميزان العبودية لله عز وجل، منطلقاً من قاعدة الافتقار إلى القهار، والتذلل إليه والانكسار، ومن لم يفعل ذلك غفل عن مزالق الاستدراج وآفاته الخافية.
[9] أبو سعيد: أحمد بن عيسى الخراز. من أهل بغداد. مات سنة 277 هـ.
[10] جهَد يجهَد (بفتح الهاء في الماضي والمضارع) جَدَّ يَجِدّ.
[11] أبو يعقوب: يوسف بن الحسين الرازي ( ت 304 هـ).
[12] سورة الزمر: 47.
[13] العلاء بن زياد رضي الله تعالى عنه.. وكان قد بكى حتى غُشِّي بصره.. توفي أيام ولاية الحجاج" [ الشعراني: الطبقات الكبرى (الفكر) 1/35].
[14] تعبد برصيص ستين سنة، وأراد الشيطان أن يغويه فلم يفلح، فعمد إبليس إلى امرأة فأجنَّها وقال لإخوتها: عليكم بهذا الراهب فيداويها، فجاؤوا بها إليه، فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يوماً عندها أعجبته، فأتاها، فحملت منه. فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها، فقال إبليس لبرصيص: أطعني أُنجِك، اسجد لي سجدة. فسجد له. فقال الشيطان: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين [ البداية والنهاية لابن كثير 2/136].
[15] بلعاام بن باعوراء: كان من علماء بني إسرائيل، ثم تواطأ مع الكفار فهلك.
[16] سورة فاطر: 5.
[17] سورة الانفطار:6.
[18] من هنا علمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكثر من الدعاء بالتثبيت؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" الحديث [ الترمذي: القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن 2141 وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والدعوات، الباب 135 برقم 3581].