الحديث العشرون
أخبرنا الشيخ الحجة الثقة العارف أبو بكر بن يحيى النجاري الأنصاري الواسطي، قال أنبأنا أبو القسم طلحة الكتاني، قال: أنبأنا أبو الحسين أحمد بن عثمان الآدمي، قال: حدثنا أحمد بن ماهان السمسار، قال أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، قال: سمعت عمر بن أوس يحدث عتبة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن صلى اثنتي عشرة ركعة تطوعاً كل يوم غير الفريضة بنى الله له بيتاً في الجنة" [1].
هذا الحديث الشريف يحث على ملازمة النوافل، فإنها من المقربات إلى الله تعالى، وهي زاد العارفين في طريقهم إليه سبحانه، وشأن المتجردين لجنابه جلَّت قدرته.
أي بني، اعلم أن مَن تجرد بسِرِّهِ عن الكُل، وتفرَّد بسر السر الفَرد، كشف له الغطاء، واستبانت له البراهين، عند مشاهدة نور الحق سبحانه، وهنالك يسقيه الله بكأس محبته، حتى يُسكره به عن غيره ويُزيل عنه التعب والنَصَب، ويصير سكوته ذكراً، وأنفاسه تسبيحاً، وكلامه تقديساً، ونومه صلاة، ولا يزال العبد يركب بسره مركب المعرفة، حتى يتصل بالمعروف، فإذا اتصل بالمعروف، بقي معه إلى الأبد، من غير أن يلتفت منه إلى ما سواه، واعلم أن مَثَلَ القلب كالقصر، والمعرفة فيه كالسلطان، والعقلُ أميرٌ على الأركان، له تبعٌ وأعوان، واللسان كالترجمان، والسر من خزائن الرحمن، ولا بد لكل واحد منها من الاستقامة في مواضعه، ودوران كلها على استقامة السر مع الحق، فإذا استقام السر استقامت المعرفة، فيستقيم العقل، وإذا استقام العقل، استقام القلب، وإذا استقام القلب، استقامت النفس، وإذا استقامت النفس، استقامت الأحوال، فالسر مُنَوَّرٌ بنور الجمال والجلال، والعقل منوَّر بنور اليقظة والاعتبار، والقلب منوَّر بنور الخشية والأفكار، والنفس منورة بنور الرياضة والانزجار، فالسر بحر من بحور العطايا، وأمواج الهمة فيه لا يُحصى عددها، ولا ينقطع مددها، وإن استقامة السر مع الحق، هي الدوام على بساط المشاهدة، مع فقد رؤية الاستقامة، واعلم أن صراط الاستقامة السُّرادق، من صراط الآخرة، والمرورُ على جسرها أصعب من المرور على جسر الآخرة، وأن عالم الأسرار غيور، لا يحب أن يكون في قلب العبد حب أو ذِكر لغيره، قال الله تعالى في بعض كتبه: " إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي، جعلت لذته وهمته في محبتي، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه" [2] ودخل رجلٌ على سري السقطي [3] رضي الله عنه فقال له: أي شيء أقرب إلى الله، ليتقرب به العبد إلى الله؟
فبكى السري، فقال: أمثلك يسأل عن هذا؟ إن أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله سبحانه، أن يطلع الله على قلبك وأنت لا تريد من الدارين غيره.
وقال إبراهيم بن أدهم: غاية همتي ومرادي من الله تعالى، أن يجعل لي الميل إليه، فلا أرى شيئاً دونه، ولا أشتغل بأحد سواه، ثم لا أبالي إلى التراب صيَّرني، أم إلى العدم رجعني. وقيل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: بأي شيء وجدت الخُلة؟ فقال: بانقطاعي إلى ربي، واختياري إياه على ما سواه، وبأني ما أكلتُ قط إلا مع الضيف.
وقالت رابعة البصرية: إلهي همتي ومرادي في الدنيا من الدنيا ذكرك، وفي الآخرة من الآخرة رؤيتك، ثم افعل بينهما ما شئتَ. وقال أبو يزيد البسطامي: رفعتُ السر إلى مواصلة الحق، فطار بأجنحة المعرفة، بنور الفطنة، في هواء الوحدانية، فاستقبلتهُ النفس وقالت: أين تذهب، أنا نفسُكَ، لا بد لك مني، فلم يلتفت السر إليها، ثم استقبلهُ الخَلقُ، وقالوا أين تذهب؛ نحن رفقاؤك وندماؤك، ولابد لك منا ومن معاونتنا إياك، فلم يلتفت إليهم، ثم استقبلته الجنة بكل ما فيها، وقالت: أين تذهب؟ فإني لك، ولابد لك مني؟ فلم يلتفت إليها، ثم استقبلته العطايا والمواهب والكرامات كذلك، حتى جاوز المملكة، وبلغ سُرادقات الفردانية، وجاوز الكلية والأنانية حتى وصل إلى الحق، وهو المطلوب. وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال في بعض مناجاته: يا رب عجبتُ ممن يجدك ثم يرجع عنك. فقال الله تعالى: يا موسى، إن مَن وجدني لا يرجع عني، وما رجع من رجع إلا عن الطريق.
وقال أبو العباس بن عطاء [4] متى ظهرت على عبدٍ الآخرة، فنِيَت في جنبها الدنيا، وبقي العبد مع دار البقاء، ومتى ظهرت على العبد مشاهدةُ الحق تعالى، فني عنده ما دون الحق، وبقي العبد مع الحق.
وقال رجل لأبي يزيد: بلغني أن عندك اسم الله الأعظم، أُحِب أن تعلمني ذلك، فقال أبو يزيد: ليس لاسم الله حدٌّ محدود، ولكنه فراغُ قلبك لوحدانيته، وترك الالتفات منه إلى غيره، فإذا كنتَ كذلك، فخذ أي اسمٍ شئت تسير به من المشرق إلى المغرب في ساعةٍ ثم تجيء.
قال ذو النون: كنتُ حاجاً فإذا بشاب يقول: إلهي قد اجتمع وفدُك، وأنت أعلم، فما أنتَ صانعٌ بهم؟ فسمعتُ صوتاً يقول: وفدي كثير، وطلاّبي قليل وسئل بعضهم: كم بين الحق والعبد؟ قال: أربعة أقدام، يرفع قدماً من الدنيا، وقدماً من الخَلق، وقدماً من النفس، وقدماً من الآخرة، فإذا هو. ثم قال السري: مَن قام على طاعة الله بغير علاقة، سقاه الله شَربةً من عين محبته، وبلِّغهُ إلى مقعد صدق.
قال علي رضي الله عنه: العارف إذا خرج من الدنيا لم يجده السائق ولا الشهيد في القيامة، ولا رضوان في الجنة، ولا مالك النار في النار. قيل: وأين يوجد؟ قال: في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إذا قام من قبره لا يقول: أين أهلي وولدي، ولا أين جبريل وميكائيل والجنة والثواب، ولكن يقول أين حبيبي وأنيسي.
قلوب العارفين لها عيونٌ ترى ما لا يراهُ الناظرونا
وألسنةٌ بسِرٍّ قد تناجي تدقُّ عن الكرامِ الكاتبينا
وأجنحةٌ تطيرُ بغير ريشٍ فتأوي عِندَ رب العالمينا
فترعى في رياض القُدسِ طوراً وتشربُ من بحار المرسَلينا
عبادٌ قاصدون إليه حتى دنوا منه وصاروا واصلينا
[1] صحيح. رواه أحمد في المسند 10410 (مسند أبي هريرةرضي الله عنه) و 26653 و 26654 (مسند أم حبيبة رضي الله عنها) ومسلم: صلاة المسافرين، باب فضل السنن الراتبة 728 والنسائي: قيام الليل، باب ثواب من صلى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة سوى المكتوبة 3/264 و 261 وأبو داود: الصلاة، باب تفريع أبواب التطوع 1250 والترمذي: الصلاة باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة من السنة، رقم 414 و 415، وقال في الحديث الأخير: حسن صحيح. وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء في ثنتي عشرة ركعة من السنة 1140- 1142 والهيثمي في موارد الظمآن (الرسالة) 614 والحاكم في المستدرك: صلاة التطوع 1/311. وأم حبيبة هي السيدة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما، أم المؤمنين، وجُلَّ روايات هذا الحديث عنها، وبعضها عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أو عن أبي هريرة أو ابن عمر أو أبي موسى رضوان الله عليهم.
[2] أخرجه أبو نعيم في الحلية مرسلاً عن الحسن البصري (كنز 1872).
[3] سري بن المغلس السقطي البغدادي، خال الجنيد توفي سنة 253 هـ.
[4] أحمد بن محمد بن سهل الأدمي، أبو العباس، توفي سنة 309 هـ أو 311.