الحديث الثامن عشر
أخبرنا ابن العم الولي الصالح السيد سيف الدين عثمان، قال: حدثني أبوك السيد علي بن يحيى الرفاعي صاحب المشهد المنوّر ببغداد، قال: حدثني ابن عمي السيد حسن بن عسلة، قال: حدثني النقيب الجليل السيد يحيى بن ثابت، قال: حدثني أبي السيد ثابت، عن أبيه السيد علي الحازم أبي الفوارس عن أبيه السيد أحمد ابن علي أبي الفضائل، عن أبيه السيد رفاعة الحسن المكي نزيل إشبيلية، عن أبيه السيد أبي القاسم محمد البغدادي نزيل مكة، عن أبيه السيد الحسن القاسم أبي موسى الرئيس، عن أبيه السيد الحسين عبدالرحمن الرضي المحدث القطيعي، عن أبيه السيد أحمد الأكبر، عن أبيه السيد موسى، عن أبيه الأمير الكبير السيد إبراهيم المرتضى، عن أخيه الإمام الأعظم قبلة أهل الباطن علي الرضا صاحب طوس، عن أبيه الإمام الشهيد موسى الكاظم، عن أبيه الإمام السعيد جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمد الباقر، عن أبيه الإمام زين العابدين علي السَّجّاد، عن أبيه الإمام المظلوم الشهيد السعيد الحسين صاحب كربلاء، عن أبيه أمير المؤمنين يعسوب نحل الموحدين الإمام علي كرم الله وجهه، عن ابن عمه سيد المخلوقين وحبيب رب العالمين نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أدبني ربي فأحسن تأديبي" [1] هذا الحديث الشريف مُلزم بالتحقيق بآدابه صلى الله عليه وسلم، فإن مَن زلَّ عنها هوى ومَن فارقها ضلَّ وغوى، وبها تعرج هِمَمُ المقربين، وتُزهِرُ أسرارُ العارفين، ولا وجه يلتحق به العارف بربه إلا طريق الأدب المحمدي وسُلَّمُ كل هذا: الذكرُ المتواصل.
أي بني، اذكر الله تعالى، واعلم أن الله تعالى أعلى درجة الذكر، وعظَّم رُتبته، ورفع شأنه، وشرَّفه وفضَّله، ثم قسَّمه على اللسان والأركان والجَنان، فينبغي أن يكون الذاكرُ على حذر أن يلتفت إلى الذكر، ويكون شريف الهمة والإرادة، لطيف الفطنة في الإشارة، صحيح النية والإرادة، لا يريد بذكره غيره، ولا يلتمس منه فراغه عنه إلى ما دونه، لأن الوصول إلى الكل تحت الرضا به عن غيره، والحرمان من الكل تحت الاشتغال بغيره، ويجب على الذاكر أن يذكره على غاية من التعظيم والحُرمة، لا على العادة والغفلة، فيصير بذلك محجوباً عن المذكور، عقوبة لترك التعظيم والحُرمة، لأن حفظ الحرمة في الذكر، خير من الذكر، وما من عبد ذكره على التحقيق، إلا نسي في جنب ذكره ما سواه، وكان الله له عِوضاً من كل شيء، وربما يريد العارفُ أن يذكره فيهيج في سرِّه أمواج التعظيم والهيبة، فيكلُّ لسانه ويطير فؤداه من إجلال الوحدانية، ثم يبدو له شعاع الشوق والمحبة من حجب القلب والألفة، فتنتهي همته إلى سرادقات الألوهية، وميادين الربوبية بإذن الله، فحينئذ يكشف له عما سُتر عن غيره من عجائب غيبه، ولطائف صُنعه، وكمال قدرته، وأنوار قدسه، فعند ذلك يعرف العبد أن الله تعالى يفعل ما يشاء بمن يشاء لمن يشاء متى يشاء كيف شاء، بيده المَنُّ والعطاء والإرادة، لا رادَّ لفضله، ولا مُعقِّب لحكمه، فيشتغل به، ويصير فانياً تحت بقائه، وهذا معنى ما رُوي في بعض الأخبار، أن الله تعالى قال في بعض الكتب: مَن يذكرني ولا ينساني حركتُ قلبه لمحبتي، إذا تكلم لي، وإذا سكت سكت لي [2]
قال الله تعالى: ( الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) [3]
وقال يحيى بن معاذ: الذكر أكبر من الجنة، لأن الذكر نصيب الله والجنة نصيب العبد، وفي الذكر رضاء الله، وفي الجنة رضاء العبيد، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن الله يتجلى للذاكرين عند الذكر وتلاوة القرآن، ولا يرونه لأنه أعز من أن يُرى، وأظهر من أن يخفى، فتفردوا بالله سبحانه، واستأنسوا بذكره، وما نزلت بأحد نازلةٍ إلا وفي كتاب الله لها دليل من الهدى والبيان.
قال أبو عبد الله النساج: إن لله تعالى في الدنيا جنة، من دخلها كان آمناً (طوبى لهم وحسن مآب) [4] قيل: ما هي ؟ قال: الأنس بذكره، قال الله تعالى في بعض كتبه: أوليائي وأحبائي تنعموا بذكري، واستأنسوا بي، فإني نعم الرب لكم في الدنيا والآخرة.
قيل لأبي بكر الواسطي [5] هل تشتهي طعاماً؟ قال: نعم، قيل: أي شيء؟ قال: لقمة من ذكر الله، بصفاء اليقين، على مائدة المعرفة، بأنامل حُسن الظن بالله، من جفنة الرضا عن الله سبحانه، وروي أن الله تعالى قال للخليل عليه الصلاة والسلام: أتدري لم اتخذتك خليلاً؟ قال: لا. قال: لأنك لا تُغفل قلبك عني، وعلى كل حالٍ لا أراك تنساني.
لولا أنك أمرتنا بذكرك، فمَن كان يجتري أن يذكرك، إجلالاً وإعظاماً لك سبحانك؟ عجباً للذاكرين، كيف تثبت قلوبهم في أبدانهم عند ذكر عظمتك، وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: يا موسى إني لم أقبل صلاة ولا ذكراً إلا ممن يتواضع لعظمتي، ويُلزم قلبه خوفي، ويقطع عمره بذكري، يا موسى إن مَثَله في الناس كمثل الفردوس في الجنان، لا يتغير طعمها، ولا يَيْبس ورقُها، فأجعلُ له عند الخوف أمناً، وعند الظلمة نوراً، وأجيبه قبل أن يدعوني، وأعطيه قبل أن يسألني، وروى كعب الأحبار [6] أن الله تعالى قال: من شغله ذكري عن مسـألتي أعطيه أفضل مما أعطي سائلي" [7].
وقال عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: طوبى لمن ذكر الله، ولم يذكر إلا الله، وطوبى لمن يخشى الله ولم يخش إلا الله.
وروي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما قال: يا أسفا على يوسف، أوحى الله تعالى إليه: إلى متى تذكرُ يوسف، أيوسف خلقك أو رزقك، أو أعطاك النبوة، فبعزتي لو كنت ذكرتني، واشتغلتَ بي عن ذكر غيري، لفرَّجتُ عنك من ساعتك فعلم يعقوب أنه مخطئ في ذكره يوسف، فأمسك لسانه عن ذكره.
وقالت رابعة البصرية رضي الله عنها: ما أوحش الساعة التي لا أذكرك فيها.
وقال موسى عليه الصلاة والسلام ذات يوم: إلهي أقريبٌ أنت فأناجيك، أم بعيد فأناديك [8]، فقال الله تعالى: أنا جليس لمن ذكرني، وقريبٌ ممن أنس بي، أقربُ إليه من حبل الوريد [9].
قيل لذي النون: متى يكون ذكر الله للعبد صافياً؟ قال: إذا كان به عارفاً، وممن دونه متبرئاً. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ذكر الله طعام الروح، والثناء عليه شراب الروح، والحياء منه لباس الروح، وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكره، وما تنعم المتنعمون بمثل أنسه.
إن الله تعالى قال في الكتب: "مَن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ، ومن ذكرني من حيث هو، ذكرته من حيث أنا" [10]
وقال: إن الخلائق صاحوا من إبليس، وإن إبليس صاح من الذاكرين، وتلا (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) [11]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من مؤمن إلا وعلى قلبه شيطان، إذا ذكر الله خنس [12]، وإذا نسي الله وسوس، ذِكرُ الله شفاءٌ لا يضر معه داء، وذكر الناس داء لا ينفع مع دواء، فاجعل ذكر الله قِبلة همك [13]، وإضاءة مسجد فكرتك، واعلم أن حقيقة الاستئناس بذكر الحبيب هو نسيان غيره.
من شغله ذكر الله تعالى فَنِيَ عن ذكر ما سواه، وصار مدهوشاً تحت لطائف صنعه، وتلاشت كُليته تحت جمال حسن غايته، واستغرق في بحار ذكر امتنانه:
للناس عيدان معدودان في سنةٍ وللمريدِ جميعُ العصرِ أعيادُ
فالذكرُ عادتُهُ، والحمدُ راحتُهُ والقلبُ في ملكوتِ الربِّ أوّادُ [14]
[1] ضعيف. رواه الشوكاني في الفوائد المجموعة ( السنة المحمدية) 327 والفتني الهندي في تذكرة الموضوعات 87 وقال: سنده ضعيف، وأخرجه ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود رضي الله عنه (بسند منقطع) كنز 31895) وقال محقق الكنز: قال المناوي في الفيض 1/224: إسناده ضعيف. وأخرجه ابن عساكر بلفظ: "أدبني ربي ونشأتُ في بني سعد" [كنز العمال 32024 ].
[2] روى الدارقطني في الأفراد وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما رفعه: " قال موسى: يا رب وددتُ أن أعلم من تحب من عبادك فأحبه" . قال: " إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبه..." الحديث [ كنز العمال 1870] وفي حديث مرسل رواه أبو نعيم عن الحسن البصري يقول الله عزَّ وجل: " إذا كان الغالب على العبد الاشتغال بي جعلت بغيته ولذته في ذكري، فإذا جعلت بغيته ولذته في ذكري عشقني وعشقته، فإذا عشقني وعشقته رفعت الحجاب فيما بيني وبينه، وصيَّرتُ ذلك تغالباً عليه، لا يسهو إذا سها الناس.. [ كنز العمال 1872].
[3] الرعد: 28.
[4] الرعد : 29.
[5] أبو بكر محمد بن موسى الواسطي، كان يستوطن كورة مرو ومات بها بعد 320 هـ.
[6] كعب بن مانع الحميري: تابعي توفي سنة 32 هـ عن مئة وأربع سنوات. أسلم في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
[7] البخاري في خلق أفعال العباد، وابن شاهين في الترغيب في الذكر، وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي في شعب الإيمان (عن ابن عمر رضي الله عنهما) وعبد الرزاق في الجامع ( عن جابر ابن عبدالله رضي الله عنهما) ورواه ابن أبي شيبة عن عمرو بن مُرَّة مرسلاً [كنز العمال (الرسالة) 1/434 الحديثان 1874 و 1875].
[8] وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: الدعاء هو العبادة. وقرأ. (ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [ غافر 60] فقال أصحابه: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) [ البقرة: 176] [ جامع الأصول (دار الفكر) 2/24 ( التفسير – تفسير سورة البقرة) 2/24].
[9] حبل الوريد: عرق في العنق، يضرب به المثل في القرب.
[10] الطبراني في الكبير عن أبي عباس وعن معاذ بن أنس رضوان الله عليهم [ كنز العمال 1866 و 1867 ] وابن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي الله عنه [ كنز 1868] ولفظه فيه قال الله تعالى: من يذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ من الناس ذكرته في ملأ أكثر منهم وأطيب.
[11] الأعراف : 201.
[12] خنس: تراجع وذهب.
[13] همّك: اهتمامك.
[14] أوّاد: معطوف، ومن آد يؤود إذا انثنى وعطف.