الحديث الثلاثون
أخبرنا الشيخ الثقة العارف بالله تعالى خالي أبوبكر بن يحيى النجاري الأنصاري الواسطي رضي الله عنه: " قال: أخبرنا أبو غالب محمد بن عبدالواحد القزاز، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، قال: أخبرنا إسحاق بن سعيد، قال: أخبرنا محمد بن هارون، قال: أنبأنا أو آمنة محمد بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن سابق، قال: أخبرنا إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا راح أحدكم الجمعة فليغتسل" [1]. وهذا الحديث الشريف فيه من إعظام مناجاة الله الغاية، فإن العبد إذا صلى ناجى ربه، سيَّما في يوم الجمعة ومشهدها، فإنه من أعظم مشاهد الحضرة. والاغتسال عبارة عن غسل القلب والقالب من الوجودات، هذا مع ما فيه من فضيلة التطهر الشرعي، وهذا سر من أسرار الاغتسال، ولم يكن من حكم شرعي إلا فيه من الأسرار الباطنة والظاهرة ما تحيّر [2] له العقول.
أي بني، اعلم أن مَن نظر في حسن تدبير الله تعالى، ولطائف صنعه، وكمال قدرته في كل شيء، علم أنه تعالى قائمٌ على نفسه بما كسبت، وأن نواصي العباد بيده، يقلبهم كيف يشاء، وأن سعادتهم وشقاوتهم [3] في ماضي حكمته، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، فمتى تحقق ذلك اعتصم بالله، واستسلم له، وفوض الكُـلّية إليه، وقام بقدم الاضطرار بين يديه، وبقي بلا حول ولا قوة، ولا اختيار ولا تعليق، ولا تدبير ولا سؤال، فإن راحة الدارين وسرورهما في الاعتصام بالله، وهمومهما في الاعتصام بغير الله، ورؤية الحول والقوة بالنفس، ألا ترى قول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله) [4] ومعاملة الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام في التيه مكافأة لقوله: (لا أملك إلا نفسي وأخي) [5] وقيل في معنى قوله تعالى: (فاخلع نعليك) [6] أي اخلع عن قلبك أهلك وولدك وكل ما سوى الله [7]، ثم قال تعالى: ( وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي) [8] أضافها إلى نفسه، قال ما تصنع بها قال: (أتوكؤا عليها) [9] فقال له: ( ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى) [10]
قال الله تعالى: يا موسى هذه التي قلت أتوكأ عليها صارت عدوة لك، لتعلق قلبك بغيري، فرجع موسى بقلبه إلى الله تعالى، فلما علم ذلك منه: (قال خذها ولا تخف) [11] وقال لنبينا عليه الصلاة والسلام: ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) [12].
يقول الله تعالى: " ما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماء من يديه، ووكلته إلى نفسه، وما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بي دون خلقي إلا أعطيته قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني" [13] وبلغنا أن الله تعالى أوحى إلا داود عليه الصلاة والسلام: وعزتي وجلالي وعظمتي وارتفاعي فوق خَلقي، لا يعتصم عبد من عبيدي بي دون خلقي، فأعلم ذلك من قلبه فيكيده السموات السبع ومَن فيهن، والأرضون السبع ومَن فيهن، إلا جعلت له من ذلك مخرجاً، وعزتي وجلالي، وعظمتي وارتفاعي فوق خَلقي، لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، فأعلم ذلك من قلبه، إلا قطعت عنه الأسباب، ثم لا أبالي في أي واد أهلكته، وأملأ قلبه شغلاً وحرصاً، وأملاً لا يبلغه أبداً". [14]
وفي الخبر:" من اعتصم بالله واستعان به، أحوج الله إليه الناس، وأنطقه بالحكمة، وجعله من ملوك الدارين، ومن اعتصم بمخلوق دونه، ووكل إليه قلبه، عذبه الله، وقطع عنه أسباب الدنيا والآخرة".
وروي أيضاً: " تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، وأقبلوا إلى الله تعالى بقلوبكم، واعتصموا به في جميع أموركم، لأن العبد إذا أقبل إلى الله بقلبه، أقبل الله بقلوب العباد إليه، ومن يعتصم بالله كفاه الله كل مؤنة". [15]
قيل ليحيى بن معاذ: متى يكون الرجل معتصماً بالله؟ فقال: إذا قطع قلبه عن كل علاقة موجودة ومفقودة، ورضي بالله وكيلا. وروي أن الله تعالى قال لداود عليه الصلاة والسلام: ما يتعبد المتعبدون، ولا يتقرب المتقربون بشيء أبلغ عندي من الاعتصام والتسليم.
وقال عامر بن قيس [16] لأحد العارفين: ادع الله لي: فقال: لقد استعنت بمن هو أعجز منك، أطع الله واعتصم به، يعطك أعظم ما يعطي السائلين. وقال: فيما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام: إن أردت أن تكون قائداً لأهل الدنيا، وسيداً في المنظر الأعلى فكن مستسلماً راضياً بحكمي.
وقال الفضيل بن عياض [17] : إني لأستحي من الله أن أقول إني معتصم بالله، لأن من اعتصم بالله لا يخاف مَن دونه، ولا يرجو غيره، ويقطع قلبه عن علائقه في الدارين.
وقيل في معني قوله: ( إنا لله) الآية، أي نحن عبيد الله وإماؤه، نتقلب في مشيئته وقضائه، ونَواصي العباد بيده (وإنا إليه راجعون) [18] بالرضا عنه، والتسليم له والاعتصام به، والتفويض إليه، وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: ( اذهب إلى فرعون إنه طغى) [19]، فقال يا رب أهلي وغنمي. قال الله تعالى: إذا وجدتني فأي شيء تصنع بغيري؟ يا موسى اذهب واعتصم، واستسلم لي وفوِّض الأمورَ إليّ، فإني جعلت الذئب راعياً لغنمك، والملائكة حافظين لأهلك، يا موسى مَن أنجاك من اليم حين ألقتكَ أمك فيه؟ ومَن ردَّكَ إلى أمكَ بعده؟ ومَن أنجاكَ من عدوكَ فرعون حين قتلتَ نفساً، ومن أنجاك من المفازة حين فررت من فرعون؟ وهو يقول في ذلك كله: أنت أنت.
واعلم أن مَن اعتصم بغيره أو بشيء دونه فهو مخذول، خارج من حد العبودية، لأن حد العبودية ترك الاختيار إلى الجبار.
قال الله تعالى: ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) [20]، (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) [21] وقال: ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) [22] وقال تعالى: ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) [23]
وقال تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) [24] واعلم أن العبودية مبنية على عشر خصال: الاعتصام بالله في كل شيء، والرضا عن الله في كل شيء، والرجوع إليه في كل شيء، والفقر إلى الله في كل شيء، والإنابة إلى الله في كل شيء، والصبر مع الله في كل شيء، والانقطاع إلى الله في كل شيء، والاستقامة بالله في كل شيء، والتفويض إلى الله في كل شيء، والتسليم له في كل شيء.
واعلم أن التسليم والاستسلام، شعبتان من شعب الإيمان والمعرفة، التسليم هو تسليم الكُـلّية إلى السلام بالسلامة بلا تخليط، والاستسلام هو أن يستسلم راضياً بجميع ما ينزل عليه منه.
[1] صحيح. رواه بهذا اللفظ أحمد في المسند 1/91 و 319 و 5/5482 و 5488 والنسائي في الجمعة، باب: حض الإمام في خطبته على الغسل يوم الجمعة 3/105 وفتح الباري 2/360 وروي في الموطأ: الجمعة، باب ما جاء في غسل يوم الجمعة رقم 429 : "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وهو كذلك في المسند 4/4466 و 5083 و 5169 و 5/5311 و 5828 والبخاري: الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة 837 ومسلم: الجمعة (أوائله) 844 و 845. وانظر البخاري 854 و 877.
[2] تحيّر (بضم الراء): مضارع خففت منه إحدى تاءيه وأصله تتحير، يقال: حار يحار وتحير يتحير (انظر القاموس المحيط).
[3] الشقاوة والشقوة (بفتح الشين فيها وكسرها) والشقا: الشقاء.
[4] سورة الأعراف: 188.
[5] سورة المائدة: 25.
[6] سورة طه: 12.
[7] هذا يعني أن يوحد المرء ربه سبحانه، ويفرده بالتوجه والخشية والعبادة، ولكنه ليس يعني أن حب المرء لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير واجب، فإن المرء لا يؤمن حتى يكون صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه، وليس يعني أيضا ألا يحب المرء أهله أو ألا يرعاهم، فمن الشر أن يضيع المكلف مَن يقوت، وخير العباد هو خيرهم لأهله، وهو فيهم راع ومسؤول عنهم، وبحبهم وبحب سائر المسلمين يتقرب إلى الله تعالى الذي يقول: "حقت محبتي للمتحابين فيّ.." وفي رواية: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ.." [ الإتحافات: ص49و 70].
[8] سورة طه: 17 -18.
[9] .سورة طه: 18
[10] سورة طه: 19-20.
[11] .سورة طه: 21
[12] سورة التوبة: 51.
[13] أخرجه العسكري عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: "ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أبواب السموات والأرض دونه، فإن دعاني لم أجبه، وإن سألني لم أعطه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السموات رزقه، فإن سألني أعطيته، وإن دعاني أحببته، وإن استغفرني غفرت له " [ كنز العمال (الرسالة) 3/8512]. ورواه ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله تبارك وتعالى أوشك الله له بالغنى إما موتاً عاجلاً، أو غنى آجلاً " [ الزهد (تصوير بيروت) : باب ما رواه نعيم بن حماد في نسخته زائداً على ما رواه المروزي عن ابن المبارك ص 34 رقم الحديث 132] وفي رواية: " من نزلت به حاجة فأنزلها بالناس.." [ كنز 6/16781 عن ابن جرير ي تهذيبه، والطبراني في الكبير، وأبي نعيم في حلية الأولياء والبيهقي في شعب الإيمان].
[14] الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية لزين الدين المناوي (بيروت) ص 99 رقم الحديث 229. وروى الغزالي بعضه في الإحياء (دار المعرفة) 4/244.
[15] الترغيب والترهيب للحافظ المنذري (الترغيب في الفراغ للعبادة) 4/24 رقم الحديث 4632 وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، والبيهقي في الزهد. ومجمع الزوائد (الفكر) 10/432 برقم 17816 وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط ". وكنز العمال 3/6077 وحلية الأولياء 1/227. كلهم عن أبي الدرداء رضي الله عنه. وانظر بهذا المعنى الترغيب والترهيب: الترغيب في الفراغ للعبادة والإقبال على الله تعالى، والترهيب من الاهتمام بالدنيا والانهماك عليها 4/23 وما بعدها.
[16] في الطبقات الكبرى للشعراني (الفكر) 1/28: عامر بن عبد الله بن قيس. وقال النبهاني: " عامر بن عبد الله المعروف بابن عبد قيس.. مات في خلافة معاوية رضي الله عنه " [ جامع كرامات الأولياء 2/134].
[17] الفضيل بن عياض التميمي (105 -187 هـ).
[18] سورة البقرة: 156.
[19] سورة طه: 24.
[20] سورة القصص: 68.
[21] سورة فاطر: 2.
[22] سورة الأنعام: 17.
[23] سورة التوبة: 51.
[24] سورة الطلاق: 3.