الصفحة الرئيسية > المكتبة الرفاعية > كتاب حالة أهل الحقيقة مع الله > الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر

الثلاثاء 7 يونيو 2011

أخبرنا شيخنا الشيخ أبو الفضل علي المقرئ القرشي الواسطي رحمه الله تعالى رحمة واسعة، قال: أنبأنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد بن المظفر الداودي، قال: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن أحمد بن حموية السرخسي، قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد ابن يوسف الفربري، قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا يحيى بن قزَعة، قال: حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العمل بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" [1]. ومن هذا الطريق روى هذا الحديث سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه بنص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.." [2] إلى آخر الحديث، وهو نص عليه مدار الدين، وأحكام العلم والعرفان واليقين، وبه قلوب العارفين، إلى حضرة قدس رب العالمين.

خُذْ طارفَ السَيرِ بلا عائق لله لا تقصد سوى اللهِ
فكل ما أمَّلتَهُ قائمٌ بهجرةِ القلبِ إلى اللهِ

أي بني، أهل الحجاب يتعجبون من كلام أولي الألباب، وربما ينتهي التعجب بهم إلى طرف من الإنكار، لقوله تعالى: (أفمن هذا الحديث تعجبون) [3] أي تنكرون فعلهم.

روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت تحت الجدار الذي أخبر الله عنه بقوله: (وكان تحته كنز لهما) [4] لوح من ذهب، والذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعجبت لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله.

قال وهب [5] رحمه الله: بينما كنت أسير في أرض الروم، إذ سمعت صوتاً من شاهق الجبل يقول: إلهي عجبت لمن عرفك، كيف يتعرض لسخطك برضاء غيرك، إلهي عجبت لمن عرفك، كيف يرجو غيرك، فاتبعت الصوت، فإذا أنا بشيخ ساجد، يقول: سبحانك عجباً للخليقة، كيف يريدون بك بدلاً، سبحانك عجباً كيف يشتغلون بخدمة غيرك، سبحانك عجباً للخليقة، كيف يشتاقون إلى غيرك؟ سبحانك سبحانك كيف يتلذذون بغيرك وبشيء دونك. فمضيت وما أشغلته عما رأيت.

قال أبو يزيد رحمه الله: عجبت لأهل الجنة كيف يتلذذون بدونه، أم كيف يستأنسون بغيره، وعجبت ممن يسكن إلى حال دون وليّ الأحوال، والعجب لمن أقبل على الخَلْق والحق يقول: إليَّ إليّ.

قال أبو عبدالله بن مقاتل رحمه الله: عجبت لابن آدم، اختاره الله لنفسه مع غناه عنه، وهو يُعرض عنه مع فقره إليه، وعجبت لمن يشغل نفسه بشيء وهو يعلم أنه قد فرغ منه، وعجبت ممن يأمر غيره بما لا يفعله، ويغضب على غيره بما يفعله، وممن يكره أن يُعصى وهو عاص، وممن يحب أن يُطاع وهو غير مطيعٍ لربه، وممن يلوم غيره على الظن، ولا يذم نفسه على اليقين [6].

قال حاتم الأصم [7] رحمه الله: عجبت ممن يستحي من الخلق كيف لا يستحي من الخالق، ولمن يطلب رضاء المربوبين كيف لا يطلب رضاء الرب، ولمن يحب أهل الطاعة وهو مقبل على المعصية، ولمن يعرف جلال الله كيف يعرض عنه، ولمن يأكل رزق ربه كيف يشكر غيره، ولمن يشتري المملوك بماله، كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه وطيب كلامه.

وقال خُنيس بن عبدالله : عجبت من رجل ليله قائم، ونهاره صائم، ويجتنب المحارم، ولا تلقاه إلا باكياً حزيناً، ورجل ليله نائم، ونهاره لاعب، ويرتكب المحارم، ولا تلقاه أبداً إلا ضاحكاً مستبشراً.

وقال يحيى بن معاذ [8] رحمه الله: عجبت ممن يتذلل للعبيد وهو يجد من سيده ما يريد، وعجبت لمن كان قوته رغيفاً يعصي رباً لطيفاً، وعجبت لمن يخاف على موت نفسه، ولا يخاف على موت قلبه، ولمن يخاف على فوات دنياه، كيف لا يخاف على فوات دينه.

قال يحيى بن معاذ: إلهي ذِكرُ الجنة موت، وذِكرُ النار موت، فيا عجباً لنفسي تحيا بين مَوتين، أما الجنة فلا صبر عنها، وأما النار فلا صبر عليها، وقيل: ذكر الوصال موت، وذكر الفراق موت، كيف يحيا قلب بين موتين، موت العارف عجيب، لأن العارف بين سرور المعرفة وخوف الفرقة، فكيف الموت مع سرور المعرفة، أم كيف الحياة مع خوف الفرقة؟

عجبتُ لِمَن يقولُ ذكرتُ ربي وهل أنسى فأذكرُ مَن نسِيتُ

أموتُ إذا ذكرتكَ ثم أحيا ولولا ماءُ وصلكَ ما حييتُ

فأحيا بالمُنى وأموتُ شوقاً فكم أحيا عليكَ وكم أموتُ

شربتُ الحبَّ كأساً بعد كأسٍ فما نَفِدَ الشرابُ وما رَوِيتُ

(يا عجباً)

تَغَرَّبَ أمري عِندَ كلِّ غريبِ فصِرتُ عجيباً عِندَ كلِّ عجيبِ


[1البخاري: النكاح، باب: من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأة فله ما نوى، رقم 4783. وفتح الباري 1/12 و 9/115.

[2أبو داود الطلاق، الباب 718: باب فيما عني به الطلاق والنيات، رقم 2201 وجامع الأصول الكتاب الرابع من حرف النون: في النية والإخلاص رقم 9163 والترغيب والترهيب: الترغيب في الإخلاص والصدق والنية الصالحة، رقم 15.

[3سورة النجم: 59.

[4سورة النجم: 59.

[5أبو عبدالله وهب بن منبه. توفي سنة 124 هـ (طبقات الشعراني 1/40).

[6يأخذ غيره بالظن السيئ فيحققه (يجعله حقيقة) ولا يبالي بأخطائه هو نفسه، مع تيقنه من تلبسه بها، ومن وقوعها منه.

[7حاتم بن عنوان الأصم، زاهد من بلخ، توفي عام 237 هـ.

[8يحيى بن معاذ الرازي أبو زكريا. كان يقيم في بلخ، ومات في نيسابور سنة 258 هـ.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.