الحديث السابع والعشرون
أخبرنا شيخنا الجليل العارف بالله شيخنا أبو الفضل على الواسطي القرشي يعرف بابن القاري رضي الله عنه، قال: أنبأنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد المظفر الداودي، قال: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن أحمد بن حمويه السرخسي، قال: أنبأنا أبو عبدالله بن يوسف الفربري، قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا بشر بن خالد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء مع من أحب" [1].
وفي هذا الحديث الشريف من الإلزام بمحبة أحباب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه بلاغ للموقنين، وهدى للمتقين، ونور للعارفين، فإن مَن تدبر سر المعية التي أفصح بها هذا النص الأشرف، انسلخ إلا عن محبة الله تعالى، ومحبة مَن أحبه الله وأحب الله، وكذلك العارفون رضي الله عنهم، ومِن العارفين مَن هم أهل القلوب المنيرة، أصحاب صفاء السريرة، والعمدة على القلوب.
أي بني، اعلم أن الله تعالى ذكر في محكم كتابه للعباد أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وترغيبه وترهيبه، وقضاءه وتقديره، وحكمه وتدبيره، ومشيئته في خلقه، وضرب الأمثال، وذكر آلاءه ونعماءه، ولطائف صنعه، وكمال قدرته، وعظيم ربوبيته.
ثم قال: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) [2] أشهدَ في هذه الآية جميع العباد، شَرَّفَ مراتب أبناء القلوب، وبَيَّنَ فضلهم على مَن دونهم.
قال بعض المفسرين في معنى قوله تعالى: ( لمن كان له قلب): أي قلب واثق بجميع ما ذكره الله سبحانه في كتابه من الوعد والوعيد وغيرهما، وقال بعضهم: لمن كان له عقل يزجره عن جميع الضلالات والغوايات في جميع الحالات.
وقال بعضهم: لمن كان له ذهن يفر به عن الشرك والشك. وقال بعضهم: لمن كان له يقين يسقط عنه وثائق الغرور، في جميع الأمور إلى أن يصل إلى الملك الغفور. وقال بعضهم: لمن كان له سر يتلاشى مع جميع أوصاف العبودية، تحت إشارة الربوبية، عند مشاهدة الحق، وقال بعضهم: لمن كان له استقامة السر مع الحق، من غير التفاتٍ منه إلى ما سواه، وقال بعضهم: لمن كان له قلب مفرد لتفرد الفرد.
وإن الله تعالى زين قلوب العارفين بزينة المعرفة كرماً وامتناناً، وزين قلوب المريدين بالعظمة والهيبة رحمةً وإحساناً، وحجب قلوب الغافلين بالجهل والغفلة محنةً وخذلاناً، وطبع على قلوب الكافرين بالإبعاد والنكرة طرداً وحرماناً.
والقلوب ثلاثة: قلب يطير في الدنيا حول الشهوات، وقلب يطير في العقبى حول الكرامات، وقلب يطير في سدرة المنتهى حول الأنس والمناجاة، فقلبٌ معلق بالدنيا، وقلب معلق بالعقبى، وقلب معلق بالمولى، وقلب حريق، وقلب غريق، وقلب سحيق. وقلب منتظر للعطاء، وقلب منتظر للرضاء، وقلب منتظر للقاء. وقلب مشروح، وقلب مجروح، وقلب مطروح.
وقلب منيب، وهو قلب آدم عليه الصلاة والسلام، وسليم، وهو قلب إبراهيم علية الصلاة والسلام، ومنير، وهو قلب سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
[1] البخاري: الأدب، باب علامة الحب في الله عز وجل 5816 – 5818 ومسلم: البر والصلة والأدب، باب "المرء مع من أحب" 2640و 2641. وانظر الحديث الثالث عشر.
[2] سورة ق: 37.