الحديث الواحد والعشرون

أخبرنا الشيخ العارف بالله تعالى سيدي عبدالملك بن الحسين بن ميمون بن الحسين الحربوني الواسطي قدس الله سره قال: أنبأنا الشيخ الثقة عبدالحق بن عبدالخالق ابن أحمد، أقول: وبهذا السند عن عبدالحق بن عبدالخالق بن أحمد، بزيادة لفظة" ابن يوسف" بعد أحمد، أجازنا كتابة مولانا الخليفة المفترض الطاعة في الأرض، القائم لله بإحياء السنة والفرض، أبو العباس الناصر لدين الله العباسي [1] الهاشمي أعز الله به كلمة الدين والمسلمين، وأيد باقتداره شريعة سيد المرسلين، عليه صلوات رب العالمين، وعبدالحق بن عبدالخالق بن أحمد بن يوسف المتقدم ذكره، قال أنبأنا أبو الحسن محمد بن مرزوق بن عبدالرزاق قراءة، قال: أنبأنا علي بن أحمد بن علي، قال: أنبأنا عمي الحسن بن علي. قال: محمد بن مرزوق: وقرأتُ علي أبي نصر محمد بن سلمان، أخبركم ذو النون بن محمد بن عامر فأقر به، قال: أنبأنا أبو أحمد الحسن بن عبدالله بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن هارون، قال: أنبأنا محمد بن العباس الننسي، قال: أنبأنا عمرو بن أبي سلمة، قال: حدثنا صدقة، عن الأصبغ، عن ابن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وإن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن صلة الرحم تزيد العمر وتنفي الفقر" [2].

وفي هذا الحديث الشريف من مكارم الأخلاق، ما يُصعِّد همة العارف إلى حضرة ربه، فإن أُس [3] المعرفة بالله مكارم الأخلاق، وأما سوء الأخلاق فهو والعياذ بالله من انحجاب السر عن الله تعالى.
أي بني، اعلم أن أعظم مصائب السر حجابه عن الله تعالى،، فكل من حلت به هذه المصيبة، فقد تلاشت سائر مصائبه في جنبها، فإن المحب سكران، والسكران لا يجد حالة سكره وجع المصيبة، فإذا أفاق وجد الألم، ومصيبة المحجوب عن الله لا تنجبر أبداً، إلا بتجريد السر عن كل ما دون الله تعالى، ولا وعيد في القرآن أصعب من قوله تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم) [4] فكم من طاعة حجبت صاحبها عن المطاع، وكم من نعمة قطعت صاحبها من المنعم، ورب نائم رُزق الانتباه بعد رقدته، ومنتبه نام بعد طول الانتباه، ورب فاجر رزق الولاية، وبلغ منازل الأبرار، وزاهد سقط عن ولايته، وسلك مسالك الفجار، وكم من عامل قد حجبته رؤية أعماله، عن رؤية امتنان ربه، حتى عمي بصره فصار مُبعداً وهو يحسب أنه واصل، ولا مصيبة أشد على العارف من الحجاب، ولو طرفة عين، وأعظم عقوبة على العبد من الله البعد والحجاب.

وحكي أن رجلاً من العُبّاد قال: إلهي كم أعصيك ولا تعاقبني ! فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان أن قل به: إلى كم أعاقبك وأنت لا تدري، ألم أحجبك عن لطائف أُنسي، ألم أخرج عن قلبك حلاوة مناجاتي؟ وقال: أبو موسى خادم أبي يزيد: دخل الشيخ مدينة فتبعه خلقٌ كثير، فلما نظر أبو يزيد إليهم وإلى ازدحامهم نحوه، قال: اللهم إني أعوذ بك أن تحجبني عنك بهم، وأعوذ بك أن تحجبهم عنك بي. رحمه الله ما أكثر إنصافه، ما أصدقه بربه، ما أشفقه على إخوانه المسلمين، أراد لهم الخير وصحة النظر، كما أراد لنفسه، تنبه يا من يريد اجتماع الناس عليه، واعتقادهم به، كم طيرت طقطقة النعال حول الرجال من رأس، وكم أذهبت من دين، اللهم سلم، اللهم سلم.

اعلم أن الناس أربعة أصناف، رجل جعل الله قلبه بصيراً ينظر بنور اليقين إلى لطائف صنعه وكمال قدرته، ورجل جعل الله عقله بصيراً ينظر بنور الفطنة إلى الوعد والوعيد، ورجل جعل الله سره بصيراً ينظر في كل الأوقات بنور المعرفة إلى الله تعالى، ورجل جعله الله مكفوفاً لا يبصر شيئاً، فهو مظهر قوله تعالى: ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً). [5]

واعلم أن الكفار محجوبون بظلمة الضلالة عن نور الهدى، وأهل المعصية محجوبون بظلمة الغفلة عن أنور التقوى، وأهل الطاعة محجوبون بظلمة رؤية الطاعة عن أنوار رؤية التوفيق وعناية المولى، فإذا رفع الله عنهم هذه الحُجُب، نظروا بأعين النور إلى النور، فعند ذلك يُحجبون عن غيره به، فكل من نظر إلى حركاته وأفعاله في طاعة الله، صار محجوباً عن وليها مفلساً، ومن نظر إلى وليها صار محجوباً به عن رؤيتها، لأنه إذا رأى عجزه عن تحقيقها وإتمامها، صار مستغرقاً في امتنانه، وربما يحجب برؤية العباد عن وجدان حلاوتها وربما يحجب برؤية وجدان الحلاوة عن صحة الإدارة، وربما يحجب برؤية المنة عن المنان سبحانه، قال النساج: من رأى نفسه عند الطاعة لم يتخلص من العُجب، ومن رأى الخلق لم يتخلص من الرياء، ومن رأي الطاعة لم يتخلص من الغرور ومن رأي الثواب لم يتخلص من الحجاب، ومن رأي الرب تعالى فذلك في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وقال بكر بن عبدالله [6] من اشتغل بطرائف الحكمة ودقائقها، صار محجوباً عن حقائقها، وما أعرف معصية أضر بصاحبها من نسيان الرب، وعلاقة القلب بغيره. وقال: كل هم وذكر لغير الله تعالى فهو حجاب بينك وبين الله، وفي الخير: (رُبَّ حسنةٍ يعملها الرجل لا يكون له سيئة أضر عليه منها، ورب سيئة يعملها الرجل لا يكون له حسنة أنفع له منها)، قيل في معناه: لأن الحسنة محمودة، والسيئة مذمومة، فمادام العبد في الحسنة مع رؤية الحسنة فهو في ميدان الدلال والافتخار، وما دام العبد في السيئة مع رؤية السيئة فهو في ميدان الانكسار والافتقار، وحال العبد في وقت الافتقار أحسن [7].

قال الإمام أبو بكر الصديق رضي الله عنه: اللهم إني أعوذ بك من الشرك الخفي، قالت رابعة رضي الله عنها: حجبت الدنيا قلوب أهلها عن الله، فلو تركوها لجالت في ملكوته، ثم رجعت بطرائف الفوائد.

قيل لسيدي منصور الرباني رضي الله عنه: بأي شيء يعرف العبد أنه غير محجوب عن ربه؟ قال: إذا طلبه ولو يطلب منه، وأراده ولم يرد منه، وأن لا يختار على اختياره شيئاً، وإن اختار له النار، وكل مَن ليس في قلبه سلطان الهيبة، ونار المحبة، وأُنس الصحبة، فهو محجوب. وقال: كفاك من المعرفة أن تعلم أن الله مطلع عليك، وكفاك من العبادة أن تعلم أن الله مستغنٍ عنك، وكفاك من المحبة أن تعلم أن حبه سابقٌ على حبك، وكفاك من الذكر أن تعلم أن ذكره متقدم على ذكرك. القلوب إذا قعدت على بساط الهيبة، زالت عنها الشهوات، وإذا قعدت على بساط المعرفة، زالت عنها الغفلات، وإذا قعدت على صدق الفردانية بالفرد للفرد فذلك مقعد الصدق.

[1الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء الحسن (553-622 هـ) أجازه جماعة، قال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد أطول مدة منه، فإنه أقام فيها سبعاً وأربعين سنة (575 – 622 هـ) [ عطا حسني: حلى الأيام في خلفاء الإسلام (مصر 1327 هـ) ص 887 وما بعدها.

[2حسن. وهو في مجمع الزوائد (الفكر) 3/293 (الزكاة: باب صدقة السر) برقم 4637 وقال نور الدين الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة، وإسناده حسن وانظر في المجمع 4639. ورواه الهندي في كنز العمال (الرسالة) الزكاة الباب الثاني في السخاء والصدقة 6/344 برقم 15973. ورواه أيضا برقم 16026 بلفظ: " صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء" [ كنز 6/353].

[3أس: أساس.

[4سورة المطففين : 14.

[5سورة الإسراء: 72.

[6بكر بن عبد الله المزني: " كان رضي الله تعالى عنه يقول: أوثق أعمالي عندي حبي للرجل الصالح.. مات سنة ثمان ومائة" [ الطبقات الكبرى للشعراني (دار الفكر) 1/35].

[7قال ابن عطاء الله السكندري (أحمد بن محمد، المتوفى عام 709 هـ) ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب، فكان سبباً في الوصول، قال عبد المجيد الشرنوبي: يعني أن الطاعة ربما قارنها آفات قادحة في الإخلاص فيها، كالإعجاب بها واحتقار من لم يفعلها، فلا يفتح لها باب القبول، وربما قارن الذنب شدة الندم واستصغار النفس وحسن الاعتذار إلى الله، فيكون سبباً في الوصول، كما بين ذلك المصنف [ أي ابن عطاء الله] بقوله: "معصية أورثت ذلا وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكبارا" [ شرح الحكم العطائية لعبد المجيد الشرنوبي ( دار ابن كثير – الطبعة الثالثة) ص 82].

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.