الحديث الخامس
أخبرنا شيخنا الصالح الثقة العارف بالله القاضي أبو الفضل علي الواسطي رضي الله عنه، قال: أنبأنا القاضي أبو بكر محمد بن عبدالباقي بن محمد البزاز، قال : أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، قال : أنبأنا أبو محمد بن عبدالله بن محمد البزاز، قال: أنبأنا أبو مسلم إبراهيم بن عبدالله بن مسلم البصري، قال: أنبأنا أبو عبدالله الأنصاري، قال: حدثنا حميد عن أنس قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : "انصر أخاك ظالماً كان أو مظلوماً، قال: أنصُرُهُ مظلوماً فكيف أنصره ظالما ً؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرُكَ إياه" [1] أقول : هذا بشأن أخيك، فكيف بك بشأنك، أخيفوا نفوسَكم وامنعوها وازجروها.
أي سادة، للعارف أربع أجنحة، الخوف، والرجاء، والمحبة، والشوق، فلا هو بجناح الخوف فيستريح من الهرب، ولا بجناح الرجاء فيستريح من الطلب، ولا بجناح المحبة فيستريح من الطرب، ولا بجناح الشوق فيستريح من الشغب، والله تعالى بيَّنَ في كتابه نعْتَهم بقوله : (ترى أعيُنَهم تفيض من الدمعِ مما عرفوا من الحق) [2]، وقوله تعالى : (لا تلهيهم تجارة) [3] الآية، وذلك لأن عمل العارف خالصٌ للمولى، وقوله مستأنس بالذكرى، ونفسه صابرة في البلوى، وسرّه دائم النجوى، وفكره بالأفق الأعلى، فمرَّةً يتفكر في نعم ربه، ومرَّةً يجول حول سرادقات قدسه، فحينئذٍ يصير حُرّاً عبدا ً، وعبدا حُرّاً، وغنياً فقيرا، وفقيراً غنياً، هكذا يعدُّ ما أمكنه طَرداً وعكساً من الألفاظ، مثل الموجود والمعروف، والعزيز والمسرور، والقريب والمحمود، والناطق والساكت، والمقبول والخائف، والشاهد والغائب، والباكي والضاحك، وذلك لأن ضحكه وسروره في حزنه، وحزنه في سروره، وعِزُّه مختلطٌ بذُلِّه، وذُلّه مختلطٌ بعِزِّه، وخوفه ممزوجٌ برجائه، ورجاؤه ممزوجٌ بخوفه، لا خوف يذهب برجائه، ولا رجاء يذهب بخوفه، وهو بنفسه يعيشُ مع الناس، وبقلبه مع الله تعالى، لا تغلب معاملةُ نفسه مع الناس معاملةَ قلبه مع الله تعالى، عزيزٌ ذليل، فقيرٌ غنيّ، كما قال أبو يزيد رضي الله عنه في مناجاته : إلهي،
كلّما قلتُ قد دنا حَلُّ قَيدي قَيَّدوني وأوثقوا المِسْمــارا
وكان يسيلُ الدمعُ من عينيه عند هذه الكلمة، وليس كل مَنْ يُرى عليه أثر الزهد فهو زاهد، وكذلك أثرُ الرغبة والحماقة والجنون والبطالة والغفلة.
إن الله تعالى كلما نظر إلى قلب عبد من عبيده بالفضل والرحمة كشف عنه حجاب الغفلة، وأظهر له لطائف القدرة، فعند ذلك لابد له من إحدى ثلاث، إما أن يصير حكيماً يتصل به الخلق إلى الله، وإما أن يكلَّ لسانه فيصير مدهوشاً مبهوتاً، وإما أن يصير مستوراً في حُجُبِه، محفوظاً في قبضته، حتى لا يراه غيره لشدة غيرته عليه، فسبحان من حجب أهل معرفته عن جميع خلقه، حجبهم عن أبناء الدنيا بأستار الآخرة، وعن أبناء الآخرة بأستار الدنيا، وذلك أن أهل المعرفة عرائس الله تعالى في أرضه، والله مَحْرَمُهُم، لا مَحْرَمَ لهم غيره، فهم عند الله مخدورون.
وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود أوليائي في قباب لا يعرفهم إلا أوليائي، فطوبى لأوليائي، ثم طوبى لأحبائي، يقال: لو بدت ذَرَّةٌ من نور النبي عليه الصلاة والسلام لاحترق ما بين العرش إلى الثرى.
قيل لرابعة : ما كمال حال العارف ؟ قالت: احتراقُهُ بحبه لربه، وعلامته أن يكون مستغنياً بالمُعطي عن العطاء، وبالمكوِّنِ عن الكون، مستغرقاً في بحار سرور وِجْدانِه، ساكناً بقلبه معه، مع ترك كل اختيار لنفسه، ولا يجزع عند الشدائد والبلوى لرؤيته، ويعلم أن الله تعالى أقرب إليه من كل شيء، وأرحم عليه من كل أحد، وأعزُّ وأكبرُ من كل شيء، وأن لكل شيء خلفاً ما خلا الله تعالى.
لكلِّ شيءٍ عدمتُهُ خَلَفْ وما لفقْدِ الحبيبِ مِنْ خَلَفْ
وإنما يُعرف العارف، إذا ميّز الخواطر النفسية من الخواطر الروحية، والإرادة الدنيوية من الأُخْرَوِيّة، والهمم العُلْوية من السُّفْلية، فمن رُزِقَ التوفيق إلى حفظ حدود صدق وفاء العبودية، والقيام بشروطها، ووجد السبيلَ إلى طريق حفظ تحقيقها، ثم قام بذكره، وذَكَرَ ذِكْرَه، ثم شكره، وشَكَرَ شُكْرَهُ، فيصيرُ مع النفسِ بلا نفس، ومع الروح بلا روح، ومع الخَلْقِ بلا خلق.
كما قال الإمام ابن عباس رضي الله عنهما : بلغنا أن عيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام بينما كانا يسيران في بعض الطُرُق، فصدم يحيى امرأة، فقال له عيسى: يا بن خالتي، لقد أصبت اليوم ذنباً عظيماً، قال: ما هو؟ قال: امرأة صدمتَها، قال يحيى: والله ما شعرتُ بها، فقال عيسى: سبحان الله نفسُك معي، فأين قلبُك وروحك ؟ فقال : عند الله، يا عيسى لو سكن قلبي إلى جبريل، أو إلى أحد غير الله طرفةَ عين، لظننتُ أنّي ما عرفتُ الله حقَّ معرفته.
وقيل: المعرفةُ خمسة أحرف، فمن وجد في نفسه معناها فليعلم أنه من أهلها، بالميم مَلَكَ نفسَه، وبالعين عَبَدَالله على صِدْق الوفاء، وبالراء رغب إلى الله بالكُلّية، وبالفاء فوّض أمره إلى الله، وبالهاء هرب من كل ما دون الله إلى الله، فكل عارف يملك نفسه بقدر معرفته بكبريائه تعالى وعظمته، ويعبدُ ربه على قدْر معرفته بربوبيته، ويرغب إليه على قدر معرفته بفضله وامتنانه، ويفوِّض أمره إليه على قدر معرفته بقدرته، ويهرب إليه على قدر معرفته بملكه وسلطانه، فهو عارف.
[1] وهو في صحيح البخاري هكذا: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه (البخاري: المظالم، باب: أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً رقم 2312). وفي رواية: "تحجزه، أو تمنعه، من الظلم، فإن ذلك نصره" [ البخاري: الإكراه، باب: يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه، رقم 6552].
[2] سورة المائدة: 83.
[3] سورة النور: 37.