الصفحة الرئيسية > المكتبة الرفاعية > كتاب حالة أهل الحقيقة مع الله > الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر

الثلاثاء 7 يونيو 2011

أخبرنا القاضي الإمام المُقري الشيخ علي أبو الفضل القرشي الواسطي بداره بواسط، قال: أنبأنا أبو إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري، قال: أنبأنا أبو يعقوب، قال: أنبأنا زاهد بن أحمد، قال: أنبأنا محمد بن إبراهيم بن نيروز، قال: حدثنا المطلب بن شعيب بن عبدالله بن صالح، قال: حدثنا الهقل بن زياد، عن بكر ابن خنيس، قال: حدثني عاصم بن عبدالله النخعي، عن أبي هارون العبدي، قال: أتينا أبا سعيد الخدري رضي الله عنه فسألناه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إنه سيأتيكم بعدي أناس من الآفاق يسألونكم عن حديثي وعن السُنَّة فاستوصوا بهم خيراً فكان إذا رآنا قال: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم [1].

هذا الحديث الشريف يجذب العارف إلى طلب حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وسُنّته، ليكون محل نظره النبويّ، في بُحبوبة التوصية السارية في عوالم الله تعالى، وهل لباب المعرفة بالله، إلا الأخذ بحديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل بسُنته السُنية؟ وهذا القامع للنفس.

أي بُنَيّ، اعلم أن معرفة النفس، أحد أصول العبودية وقَلَّ مَن يعرفها، وعَزَّ وجود من يتمنى عرفانها، وما خلق الله تعالى في الدارين سِجناً أضيق على العارف، ولا أوحش ولا أنتن من النفس، فَمَن عرفها على التحقيق، وخالف أمرها "فكُلَّ أرضٍ له ثِغرٌ وطرسوس" [2]، ومن غفل عن معرفتها، فهو على خطرٍ عظيم، ولا يسلم من شرها، فإنَّ مَن لا يعرفها كيف يقوم بمخالفتها.

قال أحمد بن حرب: إني لأشتهي أن أموت ولو ساعة، حتى أعرف نفسي وأخالفها، قال محمد بن الفضل [3]: من عرف نفسه لا يتنفس نَفَساً إلا بدوام جهدها، وكثرة عبادتها، ولا يغتر بصفاوة أوقاتها، وحسن أحوالها، ولطائف أنفاسها، وصِدق معاملتها، لما علم من غوامض آفاتها ومكرها وسوء طبعها وكمال شرها، وإني تفكرتُ في جميع عمري، ونظرتُ في شأن نفسي، فما رضيت في عمري من نفسي طرفةَ عين.

قال الأنطاكي [4] رحمه الله: مَن يعرف نفسه فهو مغرور، قال إبراهيم بن أدهم [5] رحمه الله: خالطتُ الناس سبعين سنة، فما وجدتُ رجلاً إلا وهو راكب هواه، حتى أنه إن أخطأ أحبَّ أن يُخَطِّئ الناس كلهم، ولأن يُضرب ظهري بالسياط، أحب إليّ من أن يُقال أخطأ فلان المسلم، وقال إبراهيم التَّيمي [6]: ما عرضتُ قولي على عملي إلا وجدته مكذوبا. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً ما يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي. قال ذو النون: من نظر بعين المعرفة إلى سلطان ربه فَنِيَ عنه سلطانُ نفسه، ومن نظر إلى عظمة ربه صَغُرَت عنده عظمة نفسه، وقُهِرَت تحت جلال هيبته. وقيل لمالك بن دينار حين ماتت زوجته أم يحيى: لو تزوجت يا أبا يحيى، قال: لو استطعتُ لطلقتُ نفسي، ولو أن منادياً ينادي بباب المسجد: لِيخرج شرَّكم رجلاً، فو الله ما سبقني أحدٌ إلى الباب إلا رجل له فضل قوةٍ في السعي.

وقال أبو يزيد: قلت يا رب كيف الوصول إليك؟ قال: يا أبا يزيد دَعْ نفسَكَ وتعال.

لقي حكيمٌ حكيماً فقال: يا أخي إني لأحبك في الله، فقال: يا أخي والله لو علِمتَ مني ما أعلم من نفسي لَبَغِضْتني الحالة.

وكان بكر بن عبدالله المزني [7] ومطرف بن عبدالله [8] بالموقف، فقال مطرف: اللهم لا تردهم لأجلي، وقال بكر: ما أشرف هذه المواضع وأرجاها لولا أنا فيهم! اللهم لا تحبس المغفرة بشؤمي، ولا تردهم لأجلي.

وقال موسى بن القاسم [9] : وقع عندنا زلزلة وريح حمراء، فذهبت إلى محمد ابن مقاتل، فقلت: يا أبا عبدالله ادعُ الله لنا فأنت إمامنا، فقال: ليتني لا أكون سبب هلاككم، فقال موسى بن القاسم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في المنام فقال: إن الله دفع عنكم البلاء بدعاء ابن مقاتل.

وكان عطاء السلمي [10] يبكي كلما هبت ريح شديدة، ويقول: هذه من أجلي يصيب بها الخلائق، لو مات عطاء لاستراح الخلائق من بلائه، وكثيراً ما ينوح على نفسه، ويقول: يا عطاءُ لعلك أول مسحوب إلى النار وأنت غافل.

وكان الفضل [11] واقفاً بعرفات، فنظر إلى جميع الناس وقال: يا له من موقف ما أشرفه لولا أنا فيهم، ثم بكى ورفع رأسه وأخذ لحيته وقبض عليها وقال: يا سوأتاه على ما كان من نفسي، فإنها مغرورة وبالثناء مسرورة، وإن من غاية بلاء النفس، أن لو مات نصفها لم يصلح النصف الآخر.

وحُكي أن أبا يزيد البسطامي قال: نظرت في حال عبادتي فرأيتها مختلطة، ثم نظرت إلى نفسي وتركيبها، فإذا هي منسوبةٌ إلى كل بلاء، ورأيتها لا تخلو من الشرك، وعلمت أن الله تعالى لا يقبل الشرك، فقلت لها: يا مأوى كل شر، إلى كم يدعوك الله إلى توحيده ولا تنظرين إليه؟ فاشتد على قلبي غم هذا الإشراك، فعمدتُ وأعددتُ لها كانون الصياغة ثم سَعَّرْتُ فيه نار الحق، ووضعت فيه كير اللَّيْسية، ونصبتُ سندانَ الوحدانية، وضربتها بمِطرقة الأمر والنهي، وطال بي العناء، فلما نظرتُ إليها وجدتها مُشركة، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إنها لا تنظف بالجفاء، فلعلها تنظف بالرفق واللين والمُداراة، فرددتها إلى بستان ذكر المِنَّة، ووضعتُ بين يديها رياحين رؤية اللطف والكرامات، وتروحت بمراوح التحنُّن والبر والإحسان، وطال مني العناء، فلما فتَّشتها وجدتها مُشركة، فقلت لها: يا مأوى كل شر وبلاء، لا تصلحي بالجفاء ولا بالرفق، ثم رددتها إلى قصار الأحذية، ليضربها على حجر الفردانية، ويغسلها بماء صفوة الصمدانية، فلم يزل يضربها رجاء أن تنظف من الإشراك، وطال مني العناء، فلما نظرت إليها فإذا هي مُشركة، فقلت: إنا لله لعل صلاحها من وجه آخر، ثم أنزلتها بمنزلة امرأة مستحاضة، فلم أزل أنظر إليها كالمُتحيِّرِ المُضطر، وأنظر إلى بلائها حتى أيسْتُ منها، وعلمتُ أن لا يتأتّي مُرادي منها، فطلقتها ثلاثَ تطليقات وتركتُها، وصِرتُ وحدي إلى ربي، وناديته: يا عزيزي أدعوك دعاءَ مَن لم يبق له غيرك بالعتق من عبودية ما سواك، فلما علم الله تعالى صدق الدعاء مني، واليأس من نفسي، كان أول إجابة الدعاء أن أنساني نفسي بالكُلّية.

قال أبو سليمان [12]: لو أن الخَلْق اجتمعوا على أن يضعوني كإيضاعي عند نفسي لم يقدروا على ذلك. طوبى لعبدٍ أطلعه الله على شر النفس، وعرف أصل خِلقتها، وأنواعَ عوارضها، ومَقْتَها ومَألفها، وقهرَها وحَقَّرَها، واتَّهمها وَوَضَعَها.


[1ضعيف. وهو في الترمذي: العلم، باب ما جاء في الاستيصاء بمن طلب العلم 2652 عن أبي سعيد رضي الله عنه، وأوله: إن الناس لكم تبع، وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرضين.. . الحديث، وابن ماجه: المقدمة باب الوصاة بطلبة العلم 249 وحلية الأولياء 9/273 وكنز العمال 29314 و 29275 و 29276 والترمذي 2653، وأوله: يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون.. وابن ماجه 247: سيأتيكم أقوام يطلبون العلم.. عن أبي سعيد رضي الله عنه و 248: " إنه سيأتيكم أقوام من بعدي.. عن أبي هريرة رضي الله عنه . وهو في شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي 33 و 34 وفهرسة ابن خير 7 و 8 وتاريخ دمشق لابن عساكر 2/247 و 4/0250 ومصنف عبدالرزاق 466 وتاريخ بغداد للخطيب 14/387 وجمع الجوامع للسيوطي (البحوث) 5970 ومشكاة المصابيح للتبريزي 215 وتفسير القرطبي 20/101 والفقه والمتفقه للخطيب البغدادي (بيروت) 2/116 والسلسلة الصحيحة 280 ودلائل النبوة للبيهقي (الكتب العلمية) 6/54 (موسوعة أطراف الحديث 3/262 و 5/250 و 251) وحَسَّن السيوطي أحد طرقه (الجامع الصغير (الفكر) 2/56 رقم 4733).

[2طرسوس: مدينة بثغور الشام بن أنطاكية وحلب وبلاد الروم، ويشقها نهر البرَدان [ معجم البلدان (صادر) 4/28] ومعنى: "كل أرض له ثغر وطرسوس" أنه كما ينبغي الانتباه إلى نقاط الثغور والمجابهة مع العدو (كطرسوس) وإيلاؤها عناية خاصة، ينبغي أن يولي كل امرئ جوانب الضعف في نفسه وميوله اهتماماً خاصاً، من مجاهدة ومراقبة وتقويم، ليسلم من شرها.

[3محمد بن الفضل البلخي السمرقندي (ت 319 هـ).

[4لعله أحمد بن عاصم الأنطاكي، أبو علي (القشيرية 62). أو أبو محمد عبداللطيف بن حنيف الأنطاكي [ الشعراني (الفكر) 1/83].

[5إبراهيم بن أدهم بن منصور، من كورة بلخ، مات في جبلة سنة 162، وفيها قبره.

[6قال الأعمش (سليمان بن مهران توفي سنة 148 هـ): قال لي إبراهيم التيمي: ما أكلت منذ أربعين ليلة إلا حبة عنب (جامع كرامات الأولياء للنبهاني 1/384).

[7بكر بن عبدالله المزني: توفي سنة 108 هـ.

[8توفي مطرف بن عبدالله بن الشخير سنة 107 هـ.

[9أبو العباس موسى بن القاسم بن مهدي توفي سنة 342.

[10عطاء السلمي: انظر فيه طبقات الشعراني (الفكر) 1/47 وجامع كرامات الأولياء 2/304.

[11الفضل بن أحمد المهيني ت 440 هـ (جامع كرامات الأولياء 2/439).

[12أبو سليمان الداراني: "عبدالرحمن بن عطية" منسوب إلى داريا بقرب دمشق. توفي سنة 215 (الشعراني 1/79).

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.


من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.