الحديث الخامس والعشرون
أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقري الكبير الشيخ أبو الفضل علي الواسطي رحمه الله رحمة واسعة، قال: أنبأنا أبو القاسم هبة الله بن محمد الكاتب، قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد الغيلان، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبدالله الشافعي، قال: أخبرنا محمد بن غالب، حدثني عبدالصمد بن ورقاء، عن عبدالله بن دينار، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يطعمه إلا لله تعالى، فإن الله يقلبها بيمينه، ويربيها لصاحبها كما يربي أحكم فلوه حتى يكون مثل الجبل" [1].
حث هذا الحديث الشريف على بذل المعروف، ونبّه على لزوم الإخلاص فيه، وبشر بعد الإخلاص بمضاعفته وقبوله، وكل هذا انطوى في الإخلاص، وهو نور العارفين بالله، إذا الأعمال بغير الإخلاص كلها ظُلمة، وبه تنوّر [2]، وبذلك ارتفعت همم العارفين في الأعمال إلى الإخلاص: ( ألا لله الدين الخالص). [3]
ألا إن [4] المتحققين بالتصوف صفت سرائرهم، وحسنت شعائرهم، هممهم ربهم وخُلُقُهم سُنة نبيهم، عكس المروق من أصحاب الدعوى.
أي بُنيّ، إذا نظرتَ في القوم الذين ادَّعوا التصوف اليوم، رأيتَ أن أكثرهم من الزنادقة والحرورية [5] والمبتدعة، ورأيتهم أكثر الناس جهلاً وحمقاً، وأشدهم مكراً وخديعة، وأعظمهم عُجباً وتطاولاً، وأسوأهم ظناً بأهل الزهد والتقوى، وأهل الصدق والصفاء، وعلامات أهل الصفاء أدق من أن يصفها واصف، وأعلى من أن تحتملها الأوهام، فمن علامة الصوفي أن يصفو في أقواله وأفعاله وحركاته من أدناس آفات النفس والخَلق والدنيا، وتصفو خواطره من غبار الإعراض عنه تعالى والنظر منه إلى مَن سواه، وأيضاً من علاماته أن يكون مع النفس بلا نفس، ومع الخَلق بلا خَلق، ومع القلب بلا قلب، ومع الحال بلا حال، ومع الوقت بلا وقت، ويكون مستقيماً على بساط أمر الله، متذللاً تحت جلال عظمه الله، مستكفياً مستغنياً به عن غيره، قلبه مضروب بسياط خوف القطيعة والهجران، وسِرُّه مضروب بسياط خشية البُعد والحرمان، نفسه منورة بنور الخدمة، وقلبه منور بنور المحبة، وسره منوّر بنور المعرفة، ومن علاماته أيضاً أن يكون فؤاده طائراً بأجنحة الشوق، وأركانه مستقيمة على طريق الحق، بالحق للحق مع حسن الانتظار، وعلى غاية الانكسار، مقبلاً بالكلية على مليكه، مع ترك الالتفات منه إلى مُلكه، مع الفرار من المخلوقين، لشدة وجدانه حلاوة الأنس برب العالمين، رجوعه إلى الحق، واعتماده على الحق، وقراره مع الحق، من غير أن يلتفت منه إلى الخَلق، وحشيّ القلب سماوي الحديث، رباني العلم، فرداني الهمة، روحاني العيش، نوراني القدر، وحداني المعنى، جميع إرادته تحت إرادة المعبود، شاكر لله في السر والإعلان، كي لا يقع في أبحر الكفران، ذاكر لله بالقلب واللسان، في كل وقت وأوان، كيلا يتيه في مفاوز النسيان، يعلم أن المولى يراه، ومن فوق العُلا يرعاه، فهو فان تحت عظمة نظره، متلاش بكليَّته تحت كمال قدرته، مستغرق صفاء أوقاته في أبحر امتنانه، مع سقوط كل حلاوة، غير حلاوة محبة ربه، مستقيم على صدق العبودية، من غير رؤية العبودية، فارغ القلب عن الشغل بغير الله، مع الاتكال بالقلب على الله، متواضع لأهل الإيمان، قائم على بساط الأحزان، حتى يأتيه اليقين [6] بالعفو والرضوان، لسانه مثل قلبه، يصدق في جميع أقواله وأفعاله، لا كما قال الله تعالى: (لم تقولون ما لا تفعلون) [7]، شاكر لقليل النعمة، صابر على كثير الشدة، راض بقضاء رب العزة، دائم على احتراس القلب لله بالحجة، لا يخاف دون الله، ولا يرجو غير الله، ولا يريد إلا الله، لما عَلِمَ أنه لا مُضِرّ ولا نافع، ولا رافع ولا دافع، ولا معز ولا مذل، إلا الله وحده لا شريك له، متابع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخلاقه ومذاهب أصحابه، خائف من سوء العاقبة، مشتغل بالمُقدِّر إذا اشتغل الناس بالتقدير، وبالمدبر إذا اشتغلوا بالتدبير، جالس على بساط الخدمة مع الحياء، متكئٌ على سرير الفقر والفاقة، مُشرفٌ على غُرف القُرب والمشاهدة، شاربٌ بكأس الأنس والمحبة، يطيل صمته، ويكظم غيظه، ويغلب شهوته، ويفارق راحته، من غير أن يلتفت إلى معاملة قلبه، فارغ من مصالح نفسه، تارك لجميع راحاته وشهواته، خائف من الوحشة بينه وبين حبيبه، يكون أحسن الناس للناس وأتقاهم، وأصدق الناس وأصفاهم، وأعقل الناس وأرعاهم، ينظر إلى الدنيا بعين الاعتبار، وإلى النفس بعين الاحتقار، وإلى الآخرة بعين الاستبشار، وإلى الرب بعين الافتخار، في الاستقامة كالجبل الراسي، لا تحركه الرياح الهائجة، لا يطلب ما ليس له، ولا يهتم بما قُسم له، فارغ عن خدمة المخلوقين، مشتغل بخدمة رب العالمين، لا يُعرِض عنه ببلواه، ولا يختار حبيباً سواه، نفسه طاهرة من كل خطأٍ وزَلّة، وقلبه متبرئ من كل سهو وغفلة، وسرُّه من كل حول وقوة، بدون الله سبحانه لا يرضى، طعامه طعام المرضى، وبكاؤه بكاء الثكلى، لا يتوكل قلبه إلا عليه، ولا يسلم إلا إليه، ولا يشكر النعمة إلا له، ولا يطلب الحاجة إلا منه، مستأنس بالله في جميع الأحوال، منقطع إليه في جميع الأعمال، وذكر الله حديثه في جميع المقال، تارك اختياره إلى ذي الجلال، نومه قليل، وحزنه طويل، وبدنه نحيل، وأنيسه المَلِكُ الجليل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
[1] صحيح. رواه أحمد في مسند أبي هريرة رضي الله عنه (صحيفة همام بن منبه) بلفظ: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحكم فلوه حتى تكون مثل الجبل" والبخاري في التوحيد: باب قول الله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) [ المعارج 4] وقوله جل ذكره: (إليه يصعد الكلم الطيب) [ فاطر 10] رقم 6993 وفي الزكاة، باب: لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا يقبل إلا من كسب طيب، رقم 1344 ومسلم في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، رقم 1014. وعدل تمرة: ما يعادل تمرة وزناً أو قيمة. كسب طيب: حلال. الفلو (بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، أو بكسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو) المُهر يُفلى عن أمه، أي يُفصل ويُعزل. غلول: خيانة.
[2] تُنوّر (بضم التاء) على البناء لما لم يُسَمّ فاعله (للمجهول)، و (تَنوّر) بفتح التاء على أن أصله (تتنور) ومعلوم أن كل مضارع مستهل بتاءين يجوز حذف إحداهما.
[3] الزمر: 3.
[4] ألا (بتخفيف اللام) أداة استفتاح وتنبيه، وتكسر همزة إنّ بعدها. ويمكن أن تضبط بكسر الهمزة وتشديد اللام: (إلا) على أنها استثنائية، فتفتح بعدها همزة أنّ.
[5] طائفة من الخوارج منسوبون إلى حر وراء، وهو موضع قرب الكوفة، كان فيه اول اجتماعهمحين خالفوا عليّاً رضي الله عنه، قال الفيروز آبادي: "وهم نجدةُ وأصحابه" (القاموس المحيط).
[6] اليقين (هنا) : الموت.
[7] سورة الصف: 2.