الحديث الثالث عشر
أخبرنا الشيخ الجليل الولي الأصيل، فَرْدُ الوقت أبو المكارم الباز [1] الأشهب [2]، خالي وسيدي منصور الرباني الأنصاري البطايحي رضي الله عنه برواقه في نهر دقلا، قال: حدثنا: أبو طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد الباقلاني، قال: أنبأنا أبو عمرو عثمان بن محمد العلاف قال: أنبأنا أبو بكر أحمد بن سليمان إملاء، قال: قرأ عليّ يحيى بن جعفر بي أبي طالب وأنا أسمع، قال: حدثنا محمد بن عبيد بن الأعمش، عن شقيق عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يلحق بهم، قال: "المَرءُ مع مَن أحَبّ" [3] هذا الحديث الشريف مُلْزِمٌ بمحبة العارفين، مُبشر بالإلحاق بهم إذا صَحَّت المحبة، وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله، وإن من سِرِّ الحب الخالص، أن يرفع العارف إلى مقام السرور والنجوى في المحاضرة عند سواه.
أي بُنَيّ اعلم أن العارف بأسرار المريدين، المتطلع على همم العارفين، كَلَّفَ العبادَ وفاءَ صدق العبودية، ثم بيَّن لهم تحقيق شرائطها، كيلا يتجاوزوا حَدَّ العبودية إلى حَدَّ الربوبية، وحَدَّ الفقر إلى حَدَّ الغنى، قال تعالى: ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) [4] الآية، وجعل لكل شيء سبباً، فجعل سبب المخرج من عبودية المخلوقين، القيام بصدق العبودية، قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) [5]، مِن عبودية مَن سواه، (ويرزقه) المؤانسة والمحبة والشوق إليه (من حيث لا يحتسب) ومعنى آخر: (ومن يتق الله) بحفظ السر عن آفات الالتفات إلى ما سواه (يجعل له مخرجاً) من حُجُبِ الإبعاد، ويرزقه المشاهدةَ والوَصلة (من حيث لا يحتسب)، وكذلك جعل سبب معرفة العبد ربه معرفة العبد نفسه، بشاهد: مَن عرف نفسه "أي بالعبودية " عرف ربه" [6] بالربوبية، ومَن عرف نفسه بالفناء، عرف ربه بالبقاء، ومَن عرف نفسه بالجفاءِ والخطأ، عرف ربه بالوفاءِ والعطاء، ومَن عرف نفسه بالافتقار، قام لله على قدم الاضطرار، ومَن عرف نفسه لمولاه، قَلَّت حوائجه إلى مَن سواه.
رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَن عرف الله قام بحقه" [7] أي من عرف الله بالهداية سَلَّمَ نفسه إليه، ومَن عرف الله بالربوبية قام له بأشراط العبودية، ومن عرف الله بالجزاء أوقع نفسه في العناء، ومن عرف الله بالكفاية، اكتفى به عن كل ما سواه.
روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: ألا مَن عرفني أرادني وطلبني، ومَن طلبني وجدني، ومَن وجدني لم يختر علَيَّ حبيباً سواي.
قال الشيخ أبو بكر الواسطي رحمه الله: مَن عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، ومن أطاعه قطع عن قلبه كل ما دونه، ومَن حُرِم المعرفة، حُرِم حلاوة الطاعة، ومَن حُرِم حلاوة الطاعة، حُرِم المؤانسة في الخلوة، فلا يجد في المعاملة رؤية المِنَّة، ولا يعرف قَدَرَ اللهِ على الحقيقة، ويُغلب في الأحوال فيسقط عن استقامة السِرِّ مع الحق.
وقال يوسف بن أسباط [8] رحمه الله: مَن عرف الله وفي قلبه هَمٌّ سوى الله، لم يسجد سجدةً خالصةً لله، ومَن عرف الله ولم يستغن بالله، فلا أغناه الله، ومَن قال: الله، وفي قلبه شيء سوى الله فلم يقل: الله، نعم مَن خاف الله في كل شيء آمنه الله من كل شيء، ومَن أنِسَ بمولاه استحوش عن كل ما سواه، ومَن اعتَزَّ بذي العِزِّ عَزّ، ومَن اغتر بغيره فلا فخر ولا عز، ومَن انقطع عن الأسباب الشاغلة عن الله اتصل بالأسباب الشاغلة بالله، ومَن ترك عروة العلاقات صار مستأنساً به في جميع الأوقات، ومَن ذاق حلاوة ذِكرِ مولاه ظهرت له أسرار الغيوب، ومَن جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم، ومن طلب رضاء مولاه لا يبالي بسخط ما سواه، ومن اكتفى بمقامه حُجِبَ عن إمامه، ومَن كان لله قريباً كان مع غيره غريباً، ومَن أراد عِزَّ الدارَين فلينقطع إلى مَن له مُلك الدارَين، ومَن ترك حُسْنَ الرعاية زَلَّ عن سبيل الهداية، ومَن أراد أن يشرب من محبة الله شَربةً فليشرب من بُغض غير الله جُرعة، ومن استأنس بكل شيء استوحش من كل شيء، ومَن سَكَنَ قلبه إلى شيء فليس من الله في شيء، قال عليه الصلاة والسلام: "مَن أصبح وهَمُّه غير الله فليس من الله في شيء" [9]، قال الله تعالى في بعض الكتب: مَن أرادنا أردناه، ومن أراد مِنّا أعطيناه، ومَن أحَبَّنا أحببناه، ومن اكتفى بنا عمّا لنا كُنّا له وما لنا، ألا مَن طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، قيل: ألا مَن طلبني بالتوبة وجدني بالمغفرة، ومَن طلبني بشكر النعمة وجدني بالزيادة، ومَن طلبني بالدعاء وجدني بالإجابة، ومَن طلبني بالتوكل وجدني بالكفاية، ومَن طلبني بالقُربة وجدني بالمؤانسة، ومَن طلبني بالمحبة وجدني بالوَصلة، ومن طلبني بالاشتياق وجدني باللقاء والرؤية.
وقال بعضهم: مَن كان لله كان الله له، أي مَن كان في أمر الله كان الله في أمره، ومَن كان في ذكر الله كان الله في ذكره، ومَن كان في حب الله كان الله في حبه، ومن كان في مرضاة الله يكن الله في مرضاته، (ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم) [10].
قال صلى الله عليه وسلم (مَن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) [11]، ومن حكم العارفين قول قائلهم: من ابتُليَ بمعاملة العبيد، فليلبس لهم لباساً من حديد، ومن رضي من الدنيا باليسير فقد استراح من شغل كثير، ومن أصبح على الدنيا حريصاً أصبح من الله بعيداً، ومَن هَتَكَ ستر التُقي لم تستره السموات العلى، ومن نظر في عواقب الأمور سَلِمَ من نوائب الدهور، ومن لم يقنع بالقليل وقع في غمٍّ طويل، ومن سَلَّ سيف التُقى ضرب به عنق الردى، ومن كان مسروراً لم يزل مغموراً، ومن لم يحفظ لسانه فسد عليه شأنه، ومن لم يعرف موضع ضُرَّه لم يعرف موضع نفعه، ومن أعرض عن صحبة الفجار عوضه الله صحبة الأبرار، ومن أخذ عِزّاً بغير حق أورثه الله ذُلاًّ بحق، ومن ضيَّع أيام حرثه ندم أيام حصاده، ومن توكل على غير الله يعذبه الله به، ومن رضي بالله وكيلاً صار له بكل خيرٍ دليلا، ووجد إلى كل خيرٍ سبيلا، ومَن عرف حلاوة النجوى لا يجد مرارة البلوى، (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) [12].
وقيل: ثلاث كلمات كان الأخيار من المتقدمين يوصي بعضهم بعضاً في كتبهم بهن: مَن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس. شعر:
إذا السِرُّ والإعلانُ في المؤمنِ استوى رأى العِزَّ في الدارَينِ واستوجبَ الثنا
وإن خافَ الإعلان [13] سراً فما له على فعله فضلٌ سوى الكدِّ والعنا
آخر:
من اعتزَّ بالمولى فذاك جليلُ ومن رام عِزّاً مِن سواه ذليلُ
فلو أنَّ نفساً مُذْ براها مليكُها قضت وطراً في سجدةٍ لقليلُ
[1] الباز: ضرب من الصقور يستخدم في الصيد. والبازي: اسم فاعل من باز يبوز إذا انتقل من مكان إلى مكان. ويطلق هذا الاسم على بعض الأولياء المقربين الذين أمدهم الله تعالى بكرامة الطيران المرئي والطيران الخفي، وفي الطيران المرئي يبصرهم الناس وهم في هذه الحالة، وفي الطيران الخفي يذهبون إلى أماكن نائية من دون آلات النقل المادية المعروفة، بقدرة الله تعالى.
[2] الذي يخالط بياضه اسوداد. وهو من شاب قسم من شعره دون بعض
[3] البخاري: الأدب، باب علامة الحب في الله عز وجل 5816 و 5817 ومسلم: البر والصلة والآداب، باب: المرء مع من أحب 2640 كلاهما عن ابن مسعود رضي الله عنه والبخاري (5818) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وعنه أيضاً مسلم (2641).
[4] سورة فاطر: 15.
[5] سورة الطلاق:2.
[6] سبق تخريجه في شرح الحديث الثامن.
[7] في تاريخ بغداد للخطيب 2/362 والعجلوني في كشف الخفاء (2533): "من عرف نفسه كَلَّ لسانه" وفي كشف الخفاء 2534: مَن عرف نفسه استراح وقال السيوطي في الأول: ليس بثابت. وقال العجلوني في الثاني: ليس في المرفوع (كشف الخفاء التراث الإسلامي 2/362).
[8] يوسف بن أسباط: توفي سنة نيف وتسعين ومائة (الشعراني 1/62).
[9] ضعيف. رواه الحاكم في المستدرك 4/320. وقال الذهبي في التخليص: إسحاق ومقاتل (يريد إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان، وهما من حملة هذا الحديث): ليسا بثقتين ولا صادقين. ورواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" دار الفكر 7/2530 والزبيدي في الإتحاف 8/84 وأبو نعيم في الحلية 3/48 وهو عن ابن مسعود رضي الله عنه. ولفظه في كنز العمال (الرسالة) 16/10 برقم 43706: " مَن أصبح وهَمُّه غير الله فليس من الله (في شيء) ومن لم يهتم بالمسلمين فليس منهم".
[10] سورة آل عمران: 101.
[11] عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" قالت عائشة أو بعض أزواجه رضوان الله عليهن: إنا لنكره الموت. قال صلى الله عليه وسلم: ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشِّرَ برضوان الله وكرامته، فليس أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضر بُشِّرَ بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه" (البخاري: الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه 6142 ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: من أحب لقاء الله 2683) وأخرجه البخاري أيضاً من طريق سعيد بن المسيب عن قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (6142). ومسلم منه (2684). وأخرجه البخاري برقم 6143 عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وأخرجه مسلم برقم 2685 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] سورة الإسراء:72.
[13] قطع همزة الوصل في (ال) التعريف لإقامة الوزن.