الحديث الثامن والعشرون

أخبرنا شيخنا القاضي الثقة المقري الجليل الشيخ أبوالفضل علي الواسطي القرشي رحمه الله رحمة واسعة، قال: أخبرني أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، قال: أخبرني عبدالله أحمد السرخسي، قال: حدثني أبو عبدالله محمد الفربري، قال: حدثني أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثني إسحاق ابن إبراهيم، قال: أخبرنا الحسين، عن زائدة، عن عبيد الملك، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: تعوذوا بكلمات كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهن: "اللهم إني أعوذ بك من الجُبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر" [1]. استعاذ صلى الله عليه وسلم من القواطع من الله تعالى، فإن الجبن مُقعِد عن قول الحق، والبخل مقصر عن طلب الحق، وأرذل العمر صارف عن بذل الهمة في الحق، وفتنة الدنيا قاطعة عن الحق، وعذاب القبر نتيجة أولئك، والعياذ بالله، وفي مضمون هذه الاستعاذة الشريفة المحمدية، إرشاد بإعلاء الهمة عن الجبن، والبخل، وحث على التجرد إلى الله تعالى، وهذا بغية العارفين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا مصلح الصالحين، يا ولي المتقين، يا دليل المتحيرين، يا أنيس العارفين، يا أرحم الرحمين.

أي بني، اعلم أن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى حكيم فيما حكم، وقديرٌ عالمٌ بما قضى ودبَّر، وعرف أنه جاهل بالمحبوب والمكروه، رضي عن الله في حكمته وقضائه، والرضا هو سكون القلب إلى الحكيم، وترك الاختيار مع التسليم، ولا شيء أشد على النفس من الرضا بالقضاء، لأن الرضا بالقضاء، يكون على خلاف رضا النفس وهواها، فطوبى لعبد آثر رضا الله تعالى على رضا نفسه.

وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول في مناجاته: إلهي خصصتني بالكلام ولم تكلم بشراً قبلي، فدلني على عمل أنال به رضاك، فقال الله تعالى: يا موسى رضائي عنك رضاك بقضائي.

وقال الداراني [2] : أرجو أن أكون قد أُعطيت من الرضا طرفاً، وذلك أن الله تعالى لو أدخلني النار لكنت بذلك راضياً، وإن أحق الناس بالرضا أهل المعرفة، وهو باب الله الأعظم. [3]

وروى في بعض الكتب: أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يهبط الأرض، فرأى رجلاً عليه أثر السكينة، فقال: يا رب ما أحسن هذا الرجل، فقال الله تعالى: يا جبريل انظر اسمه في اللوح في أسماء أهل النار، فقال: إلهي ما هذا؟ فقال: يا جبريل إني لا أُسأل عما أفعل، وإنه لا يبلغ أحد من خَلقي علمي إلا بما شئت. فقال جبريل: يا رب أتأذن لي أن أخبره بما رأيت؟ قال لك الإذن، فهبط جبريل وأخبره بحاله، فخر الرجل ساجداً، وكان يقول: لك الحمد يا مولاي على قضائك وقدرك، حمداً يعلو حمد الحامدين، ويزيد على شكر الشاكرين. قال: فما زال يحمد الله تعالى حتى ظن جبريل أنه لم يسمع ما قال، فقال: يا عبدالله وهل سمعت ما قلت لك؟ قال: نعم، أخبرتني أنك وجدت اسمي بين أسماء أهل النار في اللوح المحفوظ، قال فما هذا الحمد والشكر؟ قال: سبحان الله يا جبريل، إن الله تعالى قد قضى مع كمال علمه، وسعة رحمته وحلمه، ولطائف ربوبيته، وحقائق حكمته، فمن أنا حتى لا أرضى؟ تبارك الله ربي، ثم خر ساجداً، وأخذ في التسبيح والتحميد. قال: فرجع جبريل إلى الله، فقال الله تعالى: ارجع في اللوح المحفوظ وانظر ماذا ترى، فرجع فإذا اسمه في أسماء أهل الجنة، فقال: يا جبريل، هو ما ترى، إني لا أُسأل عما أفعل، فقال جبريل: إلهي ائذن لي حتى أخبره بما رأيت، فقال: لك الإذن، قال: فهبط جبريل فأخبره بما رأى، قال: لك الحمد يا سيدي ومولاي على قضائك وقدرك، حمداً يعلو حلو الحامدين، ويزيد على شكر الشاكرين [4]. فرجع جبريل متعجباً من كمال رضاه عن الله بكل ما حكم له.

وكذلك روي: أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبيائه، أن قل لعبدي فلان ابن فلان: إنك من أهل النار. فلما بلّغ إليه الرسالة حمد الله تعالى، وقال: الحمد لله على ما قضى، فالأمر أمره، والحكم حكمه. فقال الله تعالى لنبيه: الحق به ثانياً وأخبره أني قد غفرت لك، حيث رضيت بقضائي. فبلغ الرسالة، فشهق الرجل شهقة وخر ميتاً.

وإن قضاء الله تعالى على أربعة أوجه: قضاء النعمة، فعلى العبد فيه الرضا والشكر، والثاني قضاء الشدة، فعلى العبد فيه الرضا وذكر المنة، والقيام بالواجب إلى الموت، والرابع قضاء المعصية، فعلى العبد فيه الرضا عن الله والتوبة.

وسُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن القضاء والقدر، فقال: ليلٌ مظلم، وبحر عميق، وسر الله الأعظم، فمن رضي به فله الرضا، ومن سخط فله السخط.

وروي أنه لما وُضع المنشار على رأس زكريا عليه الصلاة والسلام هَمَّ أن يستغيث بالله تعالى، فأوحى الله إليه أن يا زكريا إما أن ترضى بحكمي لك، وإما أن أخرب الأرض وأُهلِكَ من عليها. فسكت حتى قُطع نصفين. وحكي أن رابعة البصرية مرضت، فقيل لها أما ندعو لك طبيباً؟ فقالت: من قضى علي؟ فقالوا: الله تعالى. قالت: أو مثلي من يرد قضاء سيده؟

ومرض أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقيل له: أما ندعو لك الطبيب؟ فقال: قد رآني. قيل وما قال؟ فقال: قال إني فعّال لما أريد.

شكا نبي من الأنبياء بعض ما ناله من المكروه، فأوحى الله إليه: كم تشكوني ولستُ أهل ذم ولا شكوى، فهكذا كان شأنك في عملي؟ فلم تسخط؟ أفتحب أن أعيد الدنيا من أجلك؟ أو أبدل اللوح بسببك، فأقضي ما يسرك كما تريد لا كما أريد، ويكون ما تحب دون ما أحب؟ فبعزتي حلفت لئن تَلَجْلَجَ هذا في صدرك مرة أخرى، لأسلبنك ثوب النبوة، ولأوردنك النار ولا أبالي.

قال بعض الحكماء ليس العجب ممن ابتلي فصبر، إنما العجب ممن ابتلي فرضي. قيل لعبدالواحد بن زيد: أي الرجلين أفضل: رجل أحب البقاء ليطيع، أو رجل أحب الخروج شوقاً إليه؟ فقال: لا هذا ولا ذاك، ولكن رجل فوض أمره إلى الله، وقام على قدم الصدق في الرضا، فإن أبقاه أحب ذلك، وإن أخرجه أحب ذلك، فهذه منازل الرضا عنه، وخلق العارف معه.

قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما تشتهي؟ قال: ما يقضي الله. وقال أبو عبدالله النساج: إن لله عباداً يستحيون من الصبر ويسلكون مسلك الرضا وإن له عباداً لو يعلمون من أين يأتي القدر، لاستقبلوه حباً ورضاً.

وفي الخبر: " إن أول ما كتب الله سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر لنعمائي، كتبته صديقاً، وبعثته يوم القيامة مع الصديقين، ومن لم يرضَ بقضائي، ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليختر رباً سواي" [5]. يقول قائلهم رضي الله عنهم: يا نفس إني أسلمتك إلى ربك، على أنه إن شاء جوَّعك، وإن شاء أشبعك، وإن شاء أعزك، وإن شاء أذلَّك، وإن شاء أحياك، وإن شاء أماتك، وهو أغنى وأولى بكِ منك، وأنت بالكُلّية له يا نفس، فما لكِ والحكم على مَن له الحكم والخلق والأمر.

وقيل ليحيى بن معاذ الرازي: متى يطيب عيش المؤمن؟ قال: إذا رضي عن الله تعالى بكل ما قضى وقدر، وحكم ودبر. وقيل له: متى يكون العبد راضياً عنه؟ قال: إذا قال العبد لربه: إلهي إن أعطيتني شكرت، وإن منعتني رضيت، وإن دعوتني أجبت، وإن تركتني عبدت.

والزهد عشرة أجزاء، وأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، والورع عشرة أجزاء، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، واليقين عشرة أجزاء، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا، لأن الرضا أعلى درجة العبودية، وإن الله سبحانه جعل الروح والراحة في الرضا، وجعل الهم في السخط.

وحُكي أن عطية الحمصي [6]، قال إن والدي قال لإبراهيم بن أدهم [7]: يا أبا إسحاق، لو كتبت من هذا الحديث كما كتنبا. فقال له: اشتغلتُ بثلاثة أجزاء، فإن فرغت منها فعلت ما تقول. قال: وما هي ؟ قال: التوكل على الله فيما تكفل به من الرزق، وإخلاص العمل لله، والرضا بقضاء الله. فأما التوكل والإخلاص فقد فرغت منهما بعون الله، وأما الرضا بقضاء الله، فإني منه في شغل شاغل، قال: فبكى والدي بكاء شديداً، وقال: ما أبعدنا عما أنت فيه، هل يكون فوق الرضا منزلة نقدر أن نقول فيها شيئاً.

قال محمد بن واسع [8]: إني لا أغبط إلا مَن أصبح وليس له غداء ولا عشاء، وهو عن الله تعالى راض. قيل لسفيان الثوري: متى يكون العبد عن الله راضياً؟ قال: إذا سرّته المصيبة كما سرّته النعمة.

وقال رجل عند الإمام الحسين [9] رضي الله عنه: إن أبا ذر [10] كان يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى، والسقم أحب إلىّ من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من رضي بحسن اختيار الله تعالى لم يتمن غير ما اختاره الله له. وقال يحيى بن معاذ: طلبت العلم فلم أسترح، ثم طلبت العمل فلم أسترح، فرضيت عن الله فغرقت في الراحة. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ليس الشأن في أكل خبز الشعير، ولبس الصوف. لكن الشأن في الرضا عن الله تعالى.

سيكون الذي قُضي كره العبد أم رضي

ليس هذا يدوم بل كل هذا سينقضي

كان مكتوباً على سيف عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

قد قضى فيك حُكمَهُ فانقضى ما يريده

فأرد ما يكون إن لم يكن ما تريده [11]

كان مكتوباً على سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

أي يومي من الموت أفرّ يوم لا يُقدَرُ أم يومٌ قُدِرْ

يوم لا يُقدَرُ لا يأتي به ومن المقدورِ لا ينجو الحَذِرْ

[1صحيح. رواه الإمام البخاري في الدعوات، باب الاستعاذة من أرذل العمر، ومن فتنة الدنيا وفتنة النار 6013 وفي باب التعوذ من عذاب القبر 6004 وباب التعوذ من فتنة الدنيا 6027 ورواه في الجهاد، باب ما يتعوذ به من الجبن 2667. والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتعوذه في دبر كل صلاة 3562 وقال: حسن صحيح. والنسائي: الاستعاذة (الاستعاذة من فتنة الدنيا) 8/266. وأحمد في المسند (مسند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم) 1585 و 1621.

[2أبو سليمان الداراني: عبد الرحمن بن عطية، وداريا بلدة من أعمال دمشق، مات سنة 215 هـ [ الشعراني: الطبقات الكبرى (الترجمة 150)].

[3وقال أبو طالب المكي (محمد بن علي بن عطية الحارثي المتوفي سنة 386 هـ): "الرضا عن الله سبحانه وتعالى من أعلى مقامات اليقين بالله، وقد قال تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) [ سورة الرحمن 60] فمن أحسن الرضا عن الله جازاه الله بالرضا عنه، فقابل الرضا بالرضا، وهذا غاية الجزاء ونهاية العطاء، وهو قوله عز وجل: ( رضي الله عنهم ورضوا عنه) [ المائدة 119 والتوبة 100 والمجادلة 22 والبينة 8] [ قوت القلوب في معاملة المحبوب (مصطفى البابي الحلبي – مصر ط1) 2/76] وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني (471 – 561 هـ): من أراد أن يحصل له الرضا بقضاء الله عز وجل فليدم ذكر الموت، فإن ذكره يهوِّن المصائب والآفات" [ الفتح الرباني ( مصر – مطبعة الحلبي 1380 هـ) ص190 ].

[4الشكر من أعلى المقامات، لأنه يشمل القلب واللسان والجوارح، ولأنه يتضمن الصبر والرضا والحمد، وكثيراً من العبادات البدنية والقلبية، ولهذا أمر الله تعالى به ونهى عن ضده وهو الكفر والجحود، فقال: (واشكروا لي ولا تكفرون) [ سورة البقرة 152] [ عبدالقادر عيسى: حقائق عن التصوف (ط4) ص 388].

[5ضعيف. وفي الإتحافات السنية لعبدالرؤوف المناوي: بسم الله الرحمن الرحيم. إن من استسلم لقضائي ورضي بحكمي وصبر على بلائي بعثته يوم القيامة مع الصديقين " رواه الديلمي. عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ: بسم الله.. إلى آخره" [ الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية (بيروت – مؤسسة الزعبي ط 4) ص 46 رقم الحديث 96] ورواه ابن النجار عن علي رضي الله عنه [ كنز العمال 3/8659 و 15/43402] وذكر محمد طاهر بن علي الهندي قسماً منه " من نسخة ابن الأشعث" [ تذكرة الموضوعات 190] وروى بعضه، وهو " إني أنا الله لا إله إلا أنا، من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي، ولم يشكر لنعمائي، فليتخذ رباً سواي" وقال: ضعيف [ تذكرة 189].

[6عطية بن قيس الحمصي/ تابعي. قال الزركلي في الأعلام (ط4 ) 4/238: "معمر، قيل: عاش 104 سنين" توفي بعد 121 هـ.

[7إبراهيم بن أدهم البلخي التميمي، أبو إسحاق، توفي سنة 161 هـ.

[8محمد بن واسع بن جابر الأزدي. توفي سنة 123 هـ.

[9الحسين السبط، الحسن بن علي رضي الله عنهما (4-61 هـ)

[10أبو ذر: جندب بن جنادة ( ت 32 هـ) رضي الله عنه.

[11هذان البيتان، والبيتان قبلهما، من مجزوء الخفيف.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.