الحديث السادس والعشرون
أخبرنا شيخنا العارف بالله خالي الشيخ أبو بكر بن يحيى النجاري الأنصاري الواسطي رضي الله عنه قال: حدثني الأستاذ أبو القاسم علي بن أحمد البسري، قال: أنبأنا أبو عمر عبدالواحد بن محمد بن مهدي، قال: أنبأنا محمد بن مخلد العطار، قال: أنبأنا محمد بن علي بن خلف، قال: أخبرنا عمرو بن عبدالغفار، عن حسن بن حُيي وسفيان الثوري، عن سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد، عن عمر بن أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر" [1].
وسِرُّ ذلك استغراق العبد في أداء الفرض، وانغماسه في السنة المحمدية، فإنها بركة الوقت، وليس عند العارف أهم من استحصال بركة الوقت، بفرض أو سنة، أو جَمْعٍ بينهما، وهناك منتهى الهمم، فإن السنة المحمدية روح العارف، بها يقوم وبها يقعد، وهي منار باب العارفين، فإن مُشيِّد أركانها، ورافع بنيانها صلى الله عليه وسلم لم ينطق عن الهوى، بل هو جلجلة ( ما زاغ البصر وما طغى) [2] ولوراثه العارفين هذه الحصة من بركة إتِّباعه، وأرواحنا وأرواح العالمين فداه.
أي بني، اعلم أن قلوب أهل المعرفة خزائن الله في أرضه، يضع فيها ودائع سره، ولطائف حكمته، وحقائق محبته، وأنوار علمه، وآيات معرفته، التي لا يطلع عليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا أحد دون الله بغير إذنه سبحانه، فينبغي أن يكون العارف عالماً بصلاحه وفساده، مستقيماً على معاملته، عارفاً بربحه وخسرانه، حافظاً له من مكابدة عدوه، مستعيناً بالله في ذلك كله، وأن لا يدع في قلبه مكاناً لغيره، فإن الله تعالى إذا اطلع على قلب فرأى فيه غيره مقته وخذله، وسلط عليه العدو، ومعاملة القلوب لله خاصة، ومعاملة الأركان مختلطة، ومعاملة القلوب تُقبل بغير الأركان، ومعاملة الأركان لا تُقبل بدون القلوب، ولا تستوجب الثواب، فإن كان العبد في معاملة القلب مقصراً، وفي معاملة الأركان موفِّرا، حُكم على توفير أحكامه بتقصير قلبه، وإن كان في معاملة القلب موفِّرا وفي معاملة الأركان مقصراً، حُكم على تقصير أركانه بتوفير قلبه.
رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم من بني إسرائيل قد لبسوا المسوح، وقد جعلوا التراب على رؤوسهم، ودموعهم منحدرة على خدودهم، فبكى عليهم رحمة لهم، وقال: إلهي، أما ترحم عبادك، أما ترى حالهم؟ فأوحى الله إليه: يا موسى انظر هل نفدت خزائني، أولستُ بأرحم الراحمين؟ كلا [3]، ولكن أعلمهم بأني بذوات الصدور خبير، يدعونني بقلوب خالية عني، مائلة إلى الدنيا [4].
وروي أنه [5] صلى الله عليه وسلم مر برجل ساجد على صخرة منذ ثلاثمائة سنة، كان يبكي ودموعه تجري على الأودية، فوقف عليه وبكى لبكائه، وقال: يا إلهي أما ترحم عبدك؟ فقال الله تعالى: لا أرحمه، قال: ولم يا إلهي؟ قال: لأن قلبه يستريح إلى غيري، وكان له جبّة يستتر بها من الحر والبرد.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: " لا يستقيم عمل العبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" [6].
وقال عليه الصلاة والسلام: " إن في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلحت الأعضاء كلها، ألا وهي القلب " [7]، وقال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: يا موسى قل لبني إسرائيل أن لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب وَجِلَة، وأبصار خاشعة، وأبدان نقية، ونية صادقة.
قال يحيى بن معاذ: قلب المؤمن مضغة جوفانية، حشوها جوهرة ربانية، حولها روضة فردانية، تحتها ساحة نورانية، والله تعالى ناظر إليها في كل لحظة بالرحمة والشفقة، ويحول بينها وبين ما يشغله عنه، قال الله تعالى: (ومن أوفى بعهده من الله) [8] وقيل: معاملة القلوب أمر شديد، والثبات عليها أشد وأصعب.
قيل لبعض أهل المعرفة: عبدٌ فقد قلبه متى يجده؟ قال: إذا نزل فيه الحق. قال: متى ينزل؟ قال: إذا ارتحل عنه ما دون الحق.
ومعاملة القلوب على عشر مدارج، أولها الخطرات، ثم حديث النفس، ثم الهم، ثم الفكر، ثم الإرادة، ثم الرضا، ثم الاختيار، ثم النية، ثم العزيمة، ثم القصد، حتى يبلغ إلى عمل الظاهر، فمن قام لله تعالى فحفظ معاملة القلب عند الخطرات، فهو على مدارج الصديقين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند حديث النفس فهو على مدارج المقربين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الهم فهو على مدارج الأوابين، ومن قام لله على حفظ معاملة القلب عند الفكرة فهو على مدارج المخلِصين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الإرادة فهو على مدارج المريدين، ومَن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الاختيار فهو على مدارج المتقين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند النية فهو على مدارج الزاهدين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند العزم فهو على مدارج المنيبين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند القصد فهو على مدارج المجتهدين، ومن قام لله فحفظ معاملة القلب على عمل الظاهر فهو على مدارج العابدين من عامة الموحدين.
وقال إسحاق بن إبراهيم [9]: لِأنْ تُرَدِّدْ قلبك إلى الله تعالى ذرة خير لك من جميع ما طلعت عليه الشمس، وما من أحد صفا قلبه من أدناس الشهوات، وطهره من غبار الغفلات، ونقاه من كدورات الغوايات، إلا أطلعه الله على غاية الغايات.
وقال بكر بن عبد الله [10] في معنى قوله تعالى: (وجاء بقلب منيب) [11] قال: الذي يمشي ببدنه على الأرض، وقلبه معلق بالله تعالى.
وقيل لأبي عبدالله: ما القلب السليم؟ قال: قلب منقطع من علائق الدنيا، مملوء من حب المولى، لا يشكو من الشدائد والبلوى، ولا يهتك أستار الصيانة والتقوى. ويقال: من لم يكن بينه وبين الله معاملة سرية كان مسيئاً وإن كان محسناً، ومن لا ير أن الكونين بما فيهما بسير قدرته، وسريع لحظته، لم ينل معاملة القلب.
وقال أبو سعيد الخراز [12]: اعلم أن معاملة القلب هي تجديد السر مع الانفراد به، وملاحظة القلب على دوام حفظ الأوقات مع صدق الحال، من غير التفات منه إلى الوقت والحال.
وقال أبو الدرداء [13]: إن لله تعالى عباداً تطير قلوبهم إلى الله اشتياقاً لا يدركها البرق الخاطف.
ويُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بحق وقر في قلبه" [14].
إن الله تعالى لا يردُّ القليل لقلته، ولا يقبل الكثير لكثرته، ولكن (إنما يتقبل الله من المتقين) [15] ويقال: ليس على مقام الصدق مَن تعلق قلبه بالمقام، ولكن الصادق من تعلق قلبه برب المقام مجرداً، حتى لا يرى مع الله غير الله أحداً. ويقال: إذا صارت المعاملة إلى القلوب استراحت الأبدان. ويقال: لا تكون معاملة القلب إلا لمن له قلب صاف ليس بساه، صحيح ليس بجريح، بصير ليس بضرير، فريد ليس بطريد، طالب ليس بهارب، قريب ليس بغريب، عاقل ليس بغافل، سماوي ليس بأرضي، عرشي ليس بوحشي.
وقال ثابت النساج [16]: قرأت القرآن سنين بالخوف فلم أجد القلب، ثم قرأته بالرجاء فلم أجد القلب، ثم قرأته بتجريد القلب عن كل ما دون الله تعالى، فعند ذلك وجدته، ورأيت عند وجوده الولاية الكبرى، والعزة العظمى، والمراتب العليا.
وقال الله تعالى في بعض الكتب: القلوب بيدي، والحب في خزائني، فلولا حبي لعبدي ما قدر العبد أن يحبني، ولولا ذكري له في الأزل ما قدر أن يذكرني، ولولا إرادتي إياه في القدم ما قدر العبد أن يريدني.
قيل: إن عارفاً رأى رجلاً يدور حول المسجد، فقال له: يا هذا ما تطلب؟ قال: أطلب موضعاً خالياً أصلي فيه، فقال: خل قلبك عما دون الله، وصَلِّ في أي موضعٍ شئت.
ويقال: بقدر إقبالك على الله يكون قرب القلب منه، وما اطلع الله على قلب عبد فرأى فيه غيره إلا عذبه الله به، ووكله إليه.
وقال يحيى بن معاذ: القلب إذا وضعته عند الدنيا خاب، وإذا وضعته عند العقبى ذاب، وإذا وضعته عند المولى طاب. وقال: الدنيا خراب، وأخرب منها قلب مَن يعمرها، والآخرة دار عمران، وأعمر منها قلب من يطلبها. وقال: مفاوز الدنيا تُقتطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقتطع بالقلوب. وقال: خراب النفس من عمارة القلب، وعمارة النفس من خراب القلب.
.سئل واحد من أبناء القلوب: ما لك لا تتكلم؟ فقال: قلبي يتكلم. قيل: مع من؟ قال: مع مقلب القلوب
[1] صحيح. رواه مسلم في الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان (2/822) برقم 1164 والترمذي في الصوم، باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال رقم 759 وقال: حسن صحيح، وأبو داود في الصوم، باب في صوم ستة أيام من شوال، برقم 2433 وابن ماجه في الصيام، باب صيام ستة أيام من شوال رقم 1716 والهيثمي في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حيان (1/405) الصيام. باب فيمن صام رمضان وستاً من شوال برقم 928 (إحسان 3635). ورواه أحمد في المسند 14236 و 14414 و 14635 والهيثمي في مجمع الزوائد 3/183 وضعّفه. وهو صحيح.
[2] سورة النجم: 17.
[3] كلا: حرف جواب للردع والزجر، وهي هنا جواب عن " هل نفدت.." فخزائن الله تعالى لا تنفد.
[4] عن ضمرة بن أبي حبيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة يرفعون عمل عبد من عباده فيستكثرونه ويزكونه، حتى ينتهوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي، وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله، فاكتبوه في سِجِّين. ويصعدون بعمل عبد فيستقلونه ويحتقرونه،حتى ينتهوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه، فيوحي الله إليهم: إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا أخلص لي عمله، فاكتبوه في عليين " [ تنبيه الغافلين للسمرقندي ( القسطنطينية 1325 هـ) ص4]. وسِجِّين: سجل أعمال أهل النار. وعليون: سجل أعمال أهل الجنة.
[5] الضمير يعود إلى نبي الله موسىعليه السلام.
[6] رواه أحمد ( 12982) وابن أبي الدنيا في الصمت (9) كلاهما من رواية علي بن مسعدة الترغيب والترهيب للحافظ المنذري (ابن كثير وشركاؤه) 3/328 برقم 3758، و 3/509 برقم 4219. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 1/53 وقال في علي بن مسعدة: وثّقه جماعة وضعّفه آخرون.
[7] من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم: " الحلال بيِّن والحرام بيِّن.." [ البخاري: الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 52 ومسلم: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات 1599].
[8] سورة التوبة: 111.
[9] ابن راهويه: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي، أبو يعقوب (161 – 238 هـ) [الأعلام (ط4) 1/292].
[10] بكر عبد الله المزني. مات سنة 108 هـ [الشعراني 1/35].
[11] سورة ق: 33.
[12] أحمد بن عيسى الخراز، أبو سعيد، توفي سنة 277.
[13] الصحابي عويمر بن مالك، أول قاض لمدينة دمشق. توفي سنة 32 هـ رضي الله عنه.
[14] الأسرار المرفوعة لعلي القاري (الرسالة) 476.
[15] مقتبس من الآية 27 من سورة المائدة.
[16] المشهور أن اسمه محمد بن إسماعيل ثم أطلق عليه خير النساج انظر الرسالة القشيرية (الترجمة 50) والشعراني (الترجمة 200) وجامع كرامات الأولياء 1/175. مات سنة 322 هـ.