الحديث الثاني عشر
أخبرنا الشيخ الجليل المقرئ العارف بالله خالي أبو بكر الأنصاري الواسطي، قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، قال: أنبأنا أبو القاسم منصور ابن النعمي، قال: أنبأنا أبو نصر عبدالله بن سعيد بن حاتم الوائلي، قال: أنبأنا أبو يَعْلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي، قال: أنبأنا أبو حامد أحمد بن محمد بن بلال البزّاز، قال أنبأنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، قال: أنبأنا سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس [1]، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء" [2].
هذا الحديث الشريف فيه من أسرار العلم بالله العجائب، أَمَرَ المصطفى صلى الله عليه وسلم بالرحمة لِمَن في الأرض من المخلوقين، لتحصل بذلك الرحمة للعبد مِن كل مَن في السماء من العُلويين، فإن السماء طريق تنزُّل الرحمات الربانية، ومحل أنبوب الإفاضات الرحموتية، ومقر الملائكة الذين جعلهم الله وسائط أسراره بينه وبين خلقه، فإذا ألقى الرحمة في سر مَلَك الرزق طاب الرزق، وإذا ألقاها في سر كاتب الأعمال أنساه السيئات، وإذا ألقاها في سر الرقيب أعان ورفق، والرحمة حال العارف، ومعراج قلبه إلى ربه، وإن عباد الله العارفين، مظاهر لرحمة رب العالمين في المخلوقين، وهو سبحانه أرحم الراحمين.
أي بني، إذا تحققتَ بالرحمة للمخلوقين رُحمت، وإذا جالستَ العارفين نجحت، وإذا سألت الحكماء الربانيين تعلمت، أي بني، اعلم أن لكل شيء مفتاحاً، ومفتاح العلم السؤال، فإن قَدَرَ المُريد على أن يجالس أهل المعرفة، فيقتبس من علمهم، وتحقيق رمزهم، ولطائف إشاراتهم، فَبَخٍ بَخْ [3]، فإن شرف العلماء الربانيين، أكبر من أن يدركه أحدٌ غيرالله، لأنهم أحباءُ الله، وأُمَناءُ سِرِّه، فليغتنم حُرمتهم، وليحرك خواطرهم بحسن السؤال، فإن أمواج خواطر العارفين لا تفنى عجائبها، وكفى للمرء جهلاً إمساكُه عن التعلم، واستكفاؤه بما عنده، وقد قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) [4]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جالسوا الكبراء، واسألوا العلماء" [5].
قال ذو النون: وُصِف لي رجلٌ بالمغرب، فارتحلتُ إليه، فوقفت عنده أربعين صباحاً، فلم أجد وقتاً أقتبس به مِن علمه شيئاً، لكمال شُغله بربه، ولم أترك الحُرْمة فيوماً من الأيام نظر إليّ فقال: من أين المُرتحِل؟ فأخبرته ببعض حالي، قال: بأي شيء جئت؟ قلت: لأقتبس من علمك، قال: اتق الله، واستعن به، وتوكل عليه، فإنه وليٌّ حميد وسكت، فقلت، زدني رحمك الله فإني رجل غريب، جئتك من بلد بعيد، لأسألك عن أشياء اختلجَت في ضميري [6]، فقال: أمُتعلِّمٌ أم عالِمٌ أم مُناظِر؟ فقلت: بل متعلم محتاج، قال: قِف في درجة المتعلمين، واحفظ الأدبَ ولا تتعدَّ، فإنك إن تعدَّيتَ فسدَ عليك النفع، العقلاء من العلماء، والعارفون من الأصفياء، الذين سلكوا سبيل الصدق، وقطعوا أودية الحُزْن، ذهبوا بخير الدارين، فقلت:
رحمك الله متى يبلغ العبد إلى ما وصفت؟ قال: إذا كان خارجاً من الأسباب، قلت: ومتى يكون العبد كذلك؟ قال: إذا خرج من الحَول والقوة. قلت: وما نهاية العارف؟ قال: أن يصيرَ بالكُليّة كالمعدوم عندَ وجوده. قلت: ومتى يبلغ إلى مهيمنة [7] الصدّيقين؟ قال: إذا عرف نفسه. قلت: متى يعرف نفسه؟ قال: إذا صار مستغرقاً في أبحر المِنَّة، وخرج من أودية الأنانية، وقام على قدمٍ ياسينيّة [8]،
قلت: ومتى يبلغ العبدُ على ما وصفته؟ قال: إذا جلس على مركب الفردانية، قلت: وما مركب الفردانية؟ قال: القيام بصدق العبودية. قلت: وما صدق العبودية؟ قال: العلم لله تعالى، والرضا بالقضاء. قلت: أوصني. قال: أوصيك بالله. قلت:
زدني، قال: حسبُك.
قال عبد الواحد بن زيد رحمه الله: رأيت رجُلاً في بعض أسفاري، وعليه ثوبٌ من الشعر، فسلمتُ عليه، قلت: رحمك الله أسألك مسألة؟ قال: أوجزْ، فإن الأيام تمضي، والأنفاس تُعَدُّ وتُحصى، والرب مُطَّلعٌ يسمع ويرى، قلت: ما رأس التقوى؟ قال: الصبر مع الله تعالى: قلت: ما رأس الصبر؟ قال: التوكل على الله، قلت: وما رأس التوكل؟ قال: الانقطاع إلى الله. قلت: وما رأس الانقطاع إلى الله؟ قال: الإنفرادُ لله. قلت: وما رأس الانفراد؟ قال: التجريد عما دون الله. قلت: ما ألذّ الأشياء؟ قال: الأُنسُ بذكر الله. قلت: ما أطيبُ الأشياء؟ قال: العيشُ مع الله. قلت: ما أقرب الأشياء؟ قال: اللحوق بالله [9]، قلت: أي شيء أوجع للقلب؟ قال: فراق الله، قلت: ما هِمّةُ العارف. قال: لقاء الله. قلت: ما علامة المحب؟ قال: حب ذكر الله. قلت: ما الأُنس بالله ؟ قال: استقامة السِرِّ مع الله. قلت: ما رأس التفويض؟ قال: التسليم لأمر الله. قلت: وما رأس التسليم؟ قال: ذكر السؤال عند الله [10]. قلت: ما أعظم السرور؟ قال: حُسْنُ الظن بالله. قلت: مَن أعظم الناس؟ قال: من استغنى بالله. قلت: من أقوى الناس؟ قال: من استقوى بالله. قلت: من المغبون؟ قال: من رضي بغير الله. قلت: ما المروءة؟ قال: تركُ النزولِ بدون الله. قلت: متى يكون العبد مُبعداً من الله؟ قال: إذا صار محجوباً عن الله. قلت: متى يكون محجوباً عن الله؟ قال: إذا كان في قلبه هَمٌّ غير الله. قلت: ومن الغُمْر [11]؟ قال: مَن أنفق عمره في غير طاعة الله. قلت: ما الزهد في الدنيا؟ قال: تَرْك كل شيء يشغل عن الله. قلت: مَن المُقبِل؟ قال: مَن أقبل على الله. قلت: ومَن المُدبِر؟ قال: مَن أدبر عن الله. قلت: ما القلب السليم؟ قال: الذي لم يكن فيه سوى الله. قلت: أخبرني من أين تأكل؟ قال: من خزائن الله. قلت: ما تشتهي؟ قال: ما يقضي الله، قلت: أوصني. قال: اعمل بطاعة الله، وارضَ بقضاء الله، واستأنس بذكر الله، تكن من أصفياء الله.
قال ذو النون المصري: كنت في بعض سياحتي، فإذا بشيخ وفي وجهه سيما [12] العارفين، قلت: رحمك الله، ما الطريق إليه؟ قال: لو عرفته لوجدتَ الطريق إليه، قلت: وهل يعبده مَن لا يعرفه؟ قال: وهل يعصيه مَن يعرفه؟ قلت: أليس آدم عصاه مع كمال معرفته؟ قال: فنسيَ ولم نجد له عزماً. ثم قال: يا هذا دع الاختلاف والخلاف. قلت: أليس في اختلاف العلماء رحمة؟ قال: بلى، إلا في تجريد التوحيد، قلت: وما تجريد التوحيد؟ قال: فقدان رؤية ما سواه لوحدانيته. قلت: وهل يكون العارف مسروراً؟ قال: وهل يكون العارف محزوناً؟ قلت: أليس من عرف الله طال هَمُّه؟ قال: بل من عرف الله زال هَمُّه، قلت: وهل تغير الدنيا قلوب العارفين؟ قال: وهل تغير العُقبى قلوبَهم؟ قلت: أليس من عرف الله صار مستوحشاً من الخَلْق؟ قال: معاذ الله أن يكون العارف مستوحشاً، ولكن يكونُ مُهاجراً ومُتجرِّداً، قلت: وهل عرفه أحد؟ قال: وهل جهله أحد؟ قلت: وهل يتأسف العارف على شيء غير الله؟ قال: وهل يعرف غير الله فيتأسف عليه؟ قلت: وهل يشتاق العارف إلى ربه قال: وهل يكون غائباً عن العارف حتى يشتاق إليه؟ قلت: وما اسم الله الأعظم؟ قال: أن تقول: الله. قلت: كثيراً ما قلتُ ولم يداخلني الهيبة، قال: لأنك تقول من حيث أنت لا من حيث هو. قلت عِظني. قال: حسبك من المواعظ علمك بأنه يراك. فقمت من عنده، وقلت: ما تأمر؟ قال: كفى بإطلاعه عليك في جميع أحوالك.
سُئل يحيى بن معاذ الرازي ما علامة القلب الصحيح؟ قال: الذي هو من هموم الدنيا مستريح. قيل: وما القوت؟ قال: ذكر حيٍّ لا يموت. قيل: وما صدق الإرادة؟ قال: ترك ما عليه العادة، قيل: وما الشوق؟ قال: ملاحظة ما فوق. قيل: متى يتم أمر العبد؟ قال: إذا سكن مع الله بلا هَمّ. قيل: وما علامة المريد؟ قال: أن لا يشتغل بالعبيد. قيل: وما رأس الهدى؟ قال: صدق التقى. قيل وما اللذة؟ قال: الموافقة. قيل: ومَن الغريب؟ قال: الذي ليس له من حبه نصيب. قيل: ومتى يبلغ العبد إلى ولاية مولاه؟ قال: إذا عزل عن قلبه كل مَن سواه. قيل: وما الراحةُ الكُبرى؟ قال: التسليمُ للمولى.
قيل: وما أفضل الأعمال؟ قال: ذكر الله على كل حال. قيل: وما الفاقة العظمى؟ قال: دوام الأنس بالمولى. قيل: وما حجاب القلوب؟ قال: الاستكفاء بالمربوب. قيل: وما العيش الجميل؟ قال: العيش مع الجليل. قيل: وما حقيقة الوفاء؟ قال: الصدق والصفاء. قيل: ومن المُحِبُّون؟ قال: العارفون. قيل ومن العزيز؟ قال: من تعزَّزَ بالعزيز، قيل ومن الشريف؟ قال: من آنس اللطيف. قيل: ومن الغُمْر؟ قال: مَن ضيَّع العُمْر. قيل ما الدنيا؟ قال: ما شغلك عن المولى.
نعم، معدن المعرفة القلب لقوله تعالى: (فإنها من تقوى القلوب) [13] ومعدن المشاهدة الفؤاد لقوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى) [14] ومعدن النور الصدر لقوله تعالى (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) [15] وما ازداد حباً لله تعالى إلا ازداد حباً لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأوليائه.
[1] أبو قابوس: هو مولي عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
[2] صحيح. رواه أحمد في المسند (دار الحديث) 6/46 (مسند عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما) برقم 6494 وأبو داود: الأدب، باب في الرحمة 4941 والترمذي: البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الناس 1925 وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. والحاكم في المستدرك 4/159 (كتاب البر والصلة) وصححه هو والذهبي. وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (الفكر) 8/341 (رقم 13672) عن جرير رضي الله عنه بلفظ : " ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء" وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. ورواه بهذا اللفظ أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برقم 13674 وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الثلاثة. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فهو مُرسل. لكنه يتقوى بشواهده.
[3] بخ: اسم فعل مضارع بمعنى أستحسن (الغلاييني: جامع الدروس العربية (ط10) 1/164) وقال الفيروز آبادي: "بخ (كقد) أي عَظُم الأمر وفَخُم، تقال وحدها وتكرر.. كلمة تقال عند الرضى والإعجاب بالشيء أو الفخر والمدح" [ القاموس المحيط (بخ)] وضبطها في القاموس بغير وجه.
[4] سورة النحل: 43.
[5] السيوطي في الجامع الصغير (دار الفكر) 1/554 برقم 3577 وعزاه إلى المعجم الكبير للطبراني ورمز إلى صحته، وهو عن أبي جحيفة رضي الله عنه. وفي كنز العمال (24661) عن الطبراني في الكبير، ورواه عن العسكري برقم 25583 ورفعه، وبرقم 25584 موقوفاً. وهو في كشف الخفاء برقم 1059 وفي مجمع الزوائد (الفكر) 1/334 برقم 519 وقال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير من طريقين، إحداهما هذه (المعجم الكبير 22/125 مرفوعاً) والأخرى موقوفة (22/133) وفيه عبد الملك بن حسين أبو مالك النخعي، وهو منكر الحديث، والموقوف صحيح الإسناد". وقال البيروتي: "فيه عبد الملك بن حسين بن مالك النخعي، ضعفه أبو زرعة، والدارقطني، وساق له مناكير، هذا الحديث منها" أسنى المطالب (طبعة مصطفى البابي الحلبي) ص89].
[6] أي خطرت مع شك.
[7] هيمنة: تمكُّن. من هيمن على كذا: أي سيطر عليه وراقبه وحفظه. ومُهَيمَنة: مصدر ميميّ من هيمن.
[8] ياسينية: محمدية.
[9] أي الموت.
[10] السؤال عند الله: الحساب.
[11] الغُمْر (بضم الغين): الجاهل.
[12] سيما: علامة، مثل سِمة وسيمياء وسُومة وسِيمة.
[13] سورة الحج: 32.
[14] سورة النجم: 11.
[15] سورة الزمر: 22.