الحديث السابع
حدثنا شيخنا المقري الإمام الصالح القاضي أبو الفضل علي الواسطي القرشي رضي الله عنه: قال: قرأت أنا وسديد الدولة محمد بن عبدالكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم بن عبدالقاهر بن زيد بن رفاعة الشيباني ويعرف بابن الأنباري على أبي عبدالله بن أحمد ابن عمر الحافظ قلنا: أنباك أبوالحسين أحمد بن محمد فأقر به قال: أنبأنا الحسين محمد ابن عبدالله الدقاق عن يحيى بن محمد إسحاق بن شاهين عن خالد بن عبدالله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى عز وجل يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تُناصِحوا من ولاّه الله أمرَكم، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" [1]
وفي هذا الحديث الشريف من رقائق أحكام المعرفة بالله، ما يكفي العارف عن غيره، فإن الأسرار المطلوبة فيه هي سلم المصطفَين الأخيار إلى الله تعالى.
أي سادة، إن لله تعالى عباداً اصطفاهم لمعرفته، وخصهم بمحبته، واختارهم لصحبته، واجتباهم لمؤانسته، وقرّبهم لمناجاته، وحرّضهم على ذكره، وأنطقهم بحكمته، وأذاقهم من كأس محبته، وفضلهم على جميع خلقه حتى لم يريدوا به بدلاً، ولا سواه كفيلاً، ولا دونه ناصراً ومعيناً ووكيلاً، ولقد سبقوا مَن دونهم سَبقاً لا بكثرة الأعمال، ولكن بصحة الإرادات، وحسن اليقين، مع دقائق الورع، والانقطاع بالقلب إليه، وتصفية السر عن كل ما دون الحق، فأذاقهم الله طعم لُباب معرفته، وأنزلهم في حظيرة قدسه، لا يصبرون عن ذكره، ولا يشبعون من بِرِّه، ولا يستريحون لغيره، فيا طوبى لهم، هم الأقلون عدداً، والأعظمون خَطَراً، بهم يحفظ الله محبته، حتى يؤدوها إلى نظرائهم، فيا طوبى لهم، هم الزاهدون فيما رغب فيه الغافلون، والمستأنسون فيما استوحش منه الجاهلون، والمشتاقون إلى ما هرب عنه الساهون، هم الذين نظروا بأعين القلوب، إلى حُجُبِ الغيوب، وجالتْ أرواحُهم في الملكوت، فَهِمَّتُهُم في سِرِّهم، وسِرُّهم عند ربهم، به يستمعون، وبه ينظرون، وبه يريدون، وبه يتحركون، قلوبهم بحبها مستأنسة بأنسها.
قال أبو يزيد رحمه الله: الناس يصيحون من إبليس، وهو يصيح مني، قيل له: كيف هذا والمصطفى عليه السلام كان مأموراً بالصياح منه، في قوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشيطين) [2].
قال: لأن الله تعالى أمره في هذه الآية بالاعتصام به، وتفويض الأمر إليه، وفَرْقٌ بين الصياح من إبليس، وبين الاعتصام بالله، وقد قال الله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) [3].
قال ذو النون: للعارف نار ونور، نار الخشية، ونور المعرفة، فظاهره محترق بنار الخشية، وباطنه مُنَوَّرٌ بنور المعرفة، فالدنيا تبكي بعين الفناء عليه، والآخرة تضحك بِسَنِّ البقاء إليه [4]، فكيف يقدر الشيطان أن يدنو منه ظاهراً وباطناً إلا
كالبرق الخاطف، أو كالريح العاصف [5]، فإن أتاه عارضٌ من قِبَلِ العَين، أحرقته نار العَبْرة، وإن أتاه مِن قبل النفس، أحرقته نار الخدمة، وإن أتاه من قبل العقل، أحرقته نار الفكرة، وإن أتاه من قبل القلب، أحرقته نار الشوق والمحبة، وإن أتاه من قبل السر، أحرقته نار القرب والمشاهدة، فتارةً يحترق قلبه بنار الخشية، وتارة يتشفى بنور المعرفة، فإذا امتزجت نار الخشية ونور المعرفة، هاجت ريح اللطف من سرادقات الأنس والقُربة، فيظهر صفاء الحق للعبد، فتراها تلاشت الأنانية، وبقيت الألوهية كما هو في الأزل.
قال أبو سليمان [6] : يُفتح للعارف وهو نائم على فراشه، ما لا يفتح لغيره وهو في صلاته.
قال أبو يزيد رحمه الله: أدنى مقامات العارف أن يمر على الماء، ويطير في الهواء، وأعلاها أن يمر على الدارين من غير أن يلتفتَ إلى مَن سواه.
قال أبو بكر الواسطي رحمه الله: دوران العارف مع محبوبه على أربعة أوجه: سرور المعرفة، وهو ممزوج برؤية حسن العناية، وحلاوة الخدمة، وهو ممزوج بذكر المِنّة، وأنس الصحبة، وهو ممزوج بلذائذ القربة، وخوف المفارقة، وهو ممزوج بتحقيق كمال القدرة، وقال ذو النون: العارف بين البر والذكر، لا اللهُ يمل من بِرِّه، ولا العارف يشبع من ذكره.
سئل بعضهم عن قوله تعالى (وأنه هو أضحك وأبكى) [7]، فقال: أضحك العارفين بسرور معرفته ثم أبكاهم من خوف مفارقته، وأمات من شاء بسيف قطيعته، أوحيى من شاء بروح وَصْلَتِه، ليعلم الخلائق أنه فعال لما يريد.
وقيل لعائشة رضي الله عنها: كيف يحاسب المؤمنون العارفون؟ فقالت: ليس مع العارفين حساب، ولكن معهم عتاب.
وروي أن سليمان عليه الصلاة والسلام نظر إلى مملكته يوماً، فأمر الله تعالى الريح حتى كشف عورته، فقال للريح، رُدَّ عليَّ ثوبي، فقال الريح، رُدَّ قلبك إلى مكانه، فطوبى لأهل المعرفة، عرفهم أنفسهم قبل أن يعرفوه، وأكرمهم قبل أن يعرفوا الكرامة، أولئك أقوام أنفسهم روحانية، وقلوبهم سماوية، وهمومهم مَرْضِيَّة، وصدورهم جَزِعة، وقلوبهم خائفة، وأعينُهم دامعة، عقلوا فعلموا، ووجدوا فرحلوا، وانفتح لهم نور القلب.
لله قومٌ مُصْطَفَونَ لنفسِهِ إختارَهم [8] من سالفِ الأزمانِ
اختارَهم من قبلِ فِطرةِ خَلقِهِم فيهم ودائعُ حِكمةٍ وبيانِ
[1] الموطأ: الجامع، باب جامع الكلام 2089، وأحمد (مسند أبي هريرة رضي الله عنه) 8785 والبخاري في الأدب المفرد: السرف في المال، برقم 442 وفي صحيحه: الزكاة، باب قول الله تعالى (لا يسألون الناس إلحافاً) (سورة البقرة 273) رقم 1407 والاستقراض، باب: ما ينهى عن إضاعة المال 2277 والأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر 5630 ومسلم: الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة 1715. ورواه السيوطي عن أحمد ومسلم (كنز العمال لعلي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري (الرسالة) 15/824 رقم 43275).
[2] سورة المؤمنون: 97.
[3] سورة الإسراء: 65.
[4] سَنّ: وضع. إذا مات العبد الصالح بكت عليه السماء والأرض، وفرحت الحور العين له، والملائكة، لتخلّصه بالسلامة من دنياه، واستبشارا بسعادته في أخراه التي جعلها الله تعالى هي دار الخلود والبقاء.
[5] كلمة ريح تُذَكَّر وتؤنث.
[6] أبو سليمان الداراني: عبد الرحمن بن عطية مات سنة 285 وقيل 215 هـ (جامع كرامات الأولياء (دار الفكر – بيروت) 1/144] وأظنه هو المراد، وثمة أبو سليمان: داود بن نصير الطائي، مات سنة 162 هـ (المصدر نفسه 1/63) والداراني أشهر.
[7] سورة النجم: 43.
[8] قطع همزة الوصل لضرورة الشعر.