الحديث السادس
حدثنا الشريف محمد بن عبدالسميع العباسي الهاشمي الواسطي، قال: أخبرنا الحاجب أبو شجاع محمد بن الحسين، قال: أنبأنا النقيب أبو الفوارس طراد بن محمد ابن علي الزبيبي الهاشمي، قال: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن يحيى بن عبدالجبار السكري، قال: أنبأنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، قال: أنبأنا أبوبكر أحمد ابن منصور الرمادي، قال أنبأنا عبدالرزاق بن همام، قال: أنبأنا مَعْمَرٌ عن الزهري عن رجل سمّاه [1]، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُستجابُ لأحدكم ما لم يَعْجَلْ فيقول دعوتُ فلم يُستجب لي" [2] والعَجَلَةُ هنا من غَلَبَةِ الإشتغال بالقَصْدِ دون خالقه، وهذا من نُقصان المعرفة، فإن العارف لا يشغله شيء عن ربه.
وسنذكر من أحوال العارفين أشياء بقصد التبرك بِذِكْرِهِم، قال الله تعالى : (واذكر في الكتابِ إبراهيم) [3] وقال سبحانه: (نحن نقص عليك) [4]
وفي الخبر: اذكروا الصالحين، عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة [5]. فلولا ذلك لما كان ينبغي لنا أن نشتغل بذكر غير الله تعالى، ومع ذلك فإن الله تعالى معنا، قال تعالى: (وهو معكم أين ما كنتم) [6].
حُكِيَ أن عبدالواحد بن زيد [7] رحمه الله قال: قصدتُ بيتَ المقدس فأضلَلْتُ طريقي، فإذا بامرأة أقبلت إليَّ فقلتُ لها: يا غريبة، أنت ضالَّة؟ قالت: كيف يكون غريباً مَنْ يعرفه، وكيف يكون ضالاً من يُحِبُّهُ، ثم قالت: خذ رأس عصاي وتقدَّم بين يديَّ مشيا، فأخذتُ رأسَ عصاها، ومشيت بين يديها سبعة أقدام أقل أو أكثر، فإذا أنا في مسجد بيت المقدس، فدلَّكتُ عيني، قلت: لعل هذا غلط مني، فقالت: يا هذا سيرك سير الزاهدين، وسيري سير العارفين، فالزاهد يسير، والعارفُ يطير، وأنَّى يلحق السَّيَّارُ الطَّيَّارَ؟ ثم غابت فلم أرها بعدها.
قال أبو عمران الواسطي رحمه الله: كنت راكباً البحرَ، إذ انكسرت السفينة، وبقيتُ أنا وامرأتي، فولدت ولداً، فأرادت الماء، فرفعتُ رأسي إلى السماء، فإذا رجلٌ جالسٌ على الهواء، وفي يده ركوة من ياقوتةٍ حمراء في سلسلة من ذهب، وقال :خذْ، فسألته عن ذلك، فقال: تركتُ هواي، فأجلسني في الهواء.
وحُكِيَ أن عبدالواحد بن يزيد قال: لأبي عاصم الربعي: كيف صنعتَ حين طلبك الحَجَّاج ؟ قال: كنت في بيتي فوقفوا على الباب ليدخل عليَّ الرسولُ فصرتُ مدهوشاً، فإذا بيدٍ أخذت بيدي وجرَّتني قدَماً أو أكثر، فنظرتُ فإذا أنا علي جبلِ أبي قبيس.
وحُكِيَ أن إبراهيم بن أدهم [8] رضي الله عنه قال: مررتُ براعٍ فقلت له: هل عندك شُربةً من الماء أو من اللبن؟ قال: أيُّهما أحبُّ إليك؟ قلت: الماء، قال: فضرب بعصاه حجراً صَلداً لا صدْعَ فيه، فانبجس من الماء، فشربتُ منه وهو أبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وبقيتُ متعجباً، فقال الراعي: لا تتعجب فإن العبد إذا أطاع الله أطاعه كلُّ شيء.
وكانت لرابعة البصرية [9] سَلَّةٌ معلقة في بيتها، فكلما أرادت الطعام، ضربت بيدها إلى السلة فوجدتْ فيها أي الطعام شاءت.
وقال شيخ الطائفة الحسن [10] رضي الله عنه: خرج سلمانُ الفارسي) رضي الله عنه من المدائن ومعه ضيف، فإذا بظباءٍ تسير في الصحراء، وطيور تطير في الهواء، فقال سلمان: ليأتني ظبيٌ وطيرٌ سمينان، فقد جاءني ضيفٌ أحب إكرامه، فجاء كلاهما، فقال الرجل سبحان الذي سخَّر لك الطيرَ في الهواء، قال: أوَ تتعجبُ من هذا؟ هل رأيتَ عبداً أطاع الله فعصاه الله.
قال عبد الواحد بن زيد: بينما أنا وأيوب السختياني [11] نسير في طريق الشام، فإذا نحن بأسودَ أقبل إلينا يحمل كارة حطب، فقلت: يا أسودُ مَن ربُك؟ قال: ألمثلي تقول هذا، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: إلهي حوِّل هذا الحطب ذهباً، فإذا هو ذهب، ثم قال: أرأيتم هذا؟ قلنا: نعم، قال: اللهم رُدَّه حطباً، فصار كما كان أولاً، ثم قال: سَلُوا فإن العارفين لا تفنى عجائبهم، فقال أيوب: بقيتُ خَجِلاً من العبد، واستحييتُ منه حياءً ما استحييت مثله من قبل ذلك من أحد قط، ثم قلت: أمَعَكَ شيءٌ من الطعام؟ قال: فأشار فإذا بين أيدينا جامٌ [12] فيها عسل، أشد بياضاً من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك، قال: كلوا فوالله الذي لا إله إلا هو ليس هذا من بطن النحل، فأكلنا فما رأينا شيئاً أحلى منه، فتعجَّبنا، فقال: ليس بعارفٍ من تعجّب من الآيات، ومن تعجب فهو بعيد من الله، ومن عبده على رؤية الآيات فهو جاهل بالله.
رحم الله ذلك الأسودَ، ما أعرفَه بالله. وقد كنتُ حاجاً وأردتُ التلبية، فأخذت منديلاً لي فغسلته، وقطعته نصفين، ثم اتزرت بنصف، وارتديت بنصف آخر لحاجة، فإذا بهاتف يهتف: انظر ما بين يديك، فنظرتُ فإذا الباديةُ فضةٌ كلُّها، فغمضتُ عيني ومضيت، وقلت: اللهم إني أعوذ بك من كل إرادةٍ سواك.
وحكي أن رجلاً من العارفين فرغ من أعمال الحج وأركانه، ثم أخذ يُحرم مرة أخرى، وقال: لبيك اللهم لبيك، فقيل له: يا هذا، إن وقت الحج والتلبية قد مضى، فقال: قد أحرمتُ من الوطن إلى زيارة البيت، والآن أحرمت من البيت إلى صاحب البيت، فقيل هنيئاً لمن أحرم عن غيره.
وحُكي أن هرم بن حيّان [13] رحمه الله قال: كنتُ أسيرُ على شاطئ الدجلة فإذا أنا برجُلٍ أقبل إليّ وعليه سيما العارفين، فسلمت عليه فقلت له: كيف حالك وشأنك؟ فقال: (سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا) [14] يا هرم بن حيّان اشتغلْ بما يعنيك، فقلت: رحمك الله مِن أينَ عرفتَ اسمي واسمَ أبي، وما رأيتك قبل اليوم؟ فقال: أما عرفتَ أنَّ العارفين يتعارف بعضُهم بعضاً بنور المعرفة، قال: فتعجبتُ من حسن فصاحته، وتحيَّرتُ من هيبته.
وقال ذو النون رضي الله عنه: بينما أنا أسير فإذا أنا بقريةٍ والناسُ يصيحون، فدنوتُ فإذا أسودُ يسخرون به، فرفع رأسه إليّ وقال: يا ذا النون اعرف قدرَ الله، ولا تمُنَّ على الله، فإن الحبيبَ لا يمُنُّ على الحبيب، فسألتُ عن حاله، قيل إنه مجنون لا يجالس الناس، ولا يأكلُ في أربعين يوماً إلا أكلةً واحدة، ثم نظر إلى السماء وقال: يا غايةَ هِمَم العارفين، إن عرفتُكَ فبمواهبك، وإن شكرتك فبعصمتك.
وقال ذو النون أيضاً: بينما أنا أسيرُ على شاطئ النيل فإذا أنا بجارية منطلقة في النيل، وقد اضطربت أمواجه، وتقول: إلهي ترى ما تفعل بي، فقلت: يا جارية أتشكِينَ منه وهو صاحب كل بَرٍّ وفاجر، فقالت: يا ذا النون أنتَ الذي إذا شكرتَ شكرتَ منه، وإذا سخطتَ سخِطتَ عليه، قلت: يا جارية، من أين عرفت اسمي وما رأيتِني؟ فقالت: عرفتك بنور معرفة الجبّار، فقلت لها: اتجدين وحشةً للوَحدة؟ قالت: لا والذي نوَّر قلبي بنور معرفته، ما سكن قلبي قطّ إلى غيره، فإنه مؤنسُ الأبرار في الخلوات، وصاحبُ الغرباء في الفلوات.
وقال جدُّ والدتي العارفُ الواسطي رحمه الله: بينما أنا أمشي في البادية، إذ أعرابيّ جالس منفرداً، فدنوت منه وسلّمتُ عليه، فردَّ عليّ السلام وأبي أن أكلِّمه، فقال: اشتغلْ بذكر الله فإن ذكرَ الله شفاءُ القلوب.
ثم قال: كيف يتفرغ ابن آدم من ذكره وخدمته، والموت في أثره، والله ناظرٌ إليه؟ ثم بكى وبكيت معه، فقلت له: ما لي أراك فريداً وحيداً؟ قال: ما أنا بوحيد والله معي، وما أنا بفريد والله مؤانسي، ثم قام ومضى مسرعاً، وهو يقول: سيدي، أكثر خلقك مشغولون عنك بغيرك، وأنت عِوَضٌ عن جميع ما فات، يا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ويا مأوى كل فريد، وجعل يمُرُّ وأنا أتبعه، ثم أقبل إلىَّ وقال: ارجعْ عافاك الله إلى من هو خير لك مني، ولا تشغلني عمن هو خير لي منك، ثم غاب عن بصري.
وحُكي أن عبدالواحد بن زيد قال: مررتُ براهبٍ فسألته: منذ كم أنت في هذا المكان؟ فقال: منذ أربع وعشرين سنة، قلت: من أنيسك؟ قال: الفرد الصمد، قلت: من المخلوقين؟ قال: الوحش، قلت، فما طعامك؟ قال: ذكر الله، قلت: مِنَ المأكول، قال: ثمار هذه الأشجار، ونبات الأرض، فقلت: أما تشتاق إلى أحد؟ قال: نعم إلى حبيبِ قلوب العارفين، قلت: إلى المخلوقين، قال: مَن كان شوقه إلى الله فكيف يشتاق إلى غيره، قلت: فلِمَ اعتزلتَ عن الخَلْق؟ قال: لأنهم سَرَّاق العقول، وقُطّاع طريق الهدى، قلت: ومتى يعرف العبد طريق الهدى؟ قال: إذا هرب إلى ربه من كل ما سواه، واشتغل بذكره عن كل مَن سواه.
قال هرم بن حيان: رأيت أويس بن عامر [15] فسلمتُ عليه، فقال: وعليك السلام يا هَرِمُ بن حيان، فقلت: كيف عرفْتَ اسمي واسم أبي؟ قال: عَرَفَت روحي روحَك بنور معرفة ربي، قلت: إني أحبك في الله، قال: ما أظن أن أحداً يحب غير الله فكيف يحب غير الله لله، قلت: أريد الصحبة معك، والأنس بك، قال: ما ظننت عارفاً يستوحش عن الله حتى يستأنس بغيره، قلت: أوصني، قال: أوصيك بالله سبحانه، فإنه عِوَضٌ عن كل ما فاتك.
وقال ذو النون المصري: كنتُ أسير في بعض المفاوز، فإذا أنا برجل مُتَّزِر بحشيش، مرتد بحشيش، فسلمتُ عليه فرد عليّ السلام، ثم قال: من أين الفتى؟ قلت: من مصر، قال: إلى أين؟ قلت: أطلب الأنس بالمولى، قال: اترك الدنيا والعُقبى، يصح لك الطلب، قلت: هذا كلامٌ صحيح، صحَّحْهُ لي، قال، أتتهمنا فيما نقول، وقد أُعطينا خيراً مما نقول، وهو المعرفة، قلت: ما أتهمك، ولكني أريد أن تزيدني نوراً على نور، فقال: يا ذا النون، انظر فوقك، فإذا السماء والأرض كأنهما ذهب يتوقد ويتلألأ، قال: اغضض بصرك، فصارتا كما كانتا، فقلت: كيف السبيل إلى هذا؟ قال: تفرَّد بالفرد إن كنت له عبداً.
وقال محمد المقدسي [16] رحمه الله: دخلتُ دار المجانين يوماً بالشام، فرأيت فيها شاباً على رقبته غُلٌ، وعلى رجليه قَيد، مشدود بالسلسلة، فلما وقع بصره عليّ، قال لي: يا محمد أترى ما فعل بي، وأشار بطرفه نحو السماء، ثم قال: جعلتك رسولاً إليه أن تقول له: لو جعلتَ السموات غلاً على عنقي، والأرضين قيداً على رجلي، ما التفتُّ منك إلى غيرك طرفة عين، ثم أنشأ يقول:
على بُعدكَ لا يصبرُ مَن عادته القُرْبُ
ولا يقوى على قطعِكَ مَن تيَّمَهُ الحُبُّ
إذا لم تَرَكَ العَينُ فقد أبصركَ القلبُ
[1] هو أبوعبيد مولى ابن أزهر (البخاري (الخدمات الطباعية) 5/2335).
[2] البخاري: الدعوات، باب: يستجاب للعبد ما لم يَعْجَلْ 5981 ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة ، باب بيان أنه يُستجاب للداعي ما لم يعجل 2735.
[3] سورة مريم 41.
[4] سورة يوسف 3.
[5] إحياء علوم الدين (المعرفة) 2/231، قال الحافظ العراقي: ليس له أصل في الحديث المرفوع، وإنما هو من قول سفيان بن عيينة، كذا رواه ابن الجوزي في مقدمة صفة الصفوة [المغني (بهامش الإحياء) 2/231 ] وإتحاف السادة المتقين 6/350، وأسنى المطالب 140 وفيه: "حديث" "عند ذكر أهل الصلاح تنزل الرحمة": لا أصل له. قال العراقي وابن حجر: قيل: هو من كلام ابن عيينة". وكشف الخفاء 2/70 برقم 1772 وفيه: "قال الحافظ ابن حجر: لا أصل له.. لكن قال ابن الصلاح في علوم الحديث: روينا عن أبي عمرو إسماعيل بن مجيد أنه ساير أبا جعفر أحمد بن حمدان ، وكانا عبدين صالحين ، فقال له: بأي نية أكتب الحديث؟ فقال: ألستم (ترون) أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة؟ قال: بلى. قال: فرسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس الصالحين. انتهى. قال القاري: لكن اللفظ إن كان (تروون) بواوين، من الرواية، فيدل في الجملة على أنه حديث، وله أصل، وإن كان (ترون) من الرؤية، مجهولاً (أي بضم التاء) أو معلوماً (بفتحها) فلا دلالة فيه. وقال الزمخشري في خطبة رسالة في فضائل العَشَرَة: ورد في صحيح الآثار المسندة عن العلماء الكبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة" وهو في الفوائد المجموعة للشوكاني (السُّنّة المحمدية) 508 والأسرار المرفوعة لعلي القاري (الرسالة) 249 (موسوعة أطراف الحديث 5/499) وأورده محمد طاهر الهندي الفتني في تذكرة الموضوعات 193 باب فضل الأولياء والأبدال.
[6] سورة الحديد 4.
[7] أدرك الحسن البصري (الطبقات الكبرى للشعراني 1/60).
[8] إبراهيم بن أدهم التميمي البلخي أبو إسحاق ، توفي سنة 161 هـ.
[9] هي رابعة العدوية.
[10] الحسن البصري (الحسن بن يسار).
[11] أيوب بن كيسان السختياني البصري، أبو بكر (66-131 هـ).
[12] جام: إناء للشراب والطعام. والجام مؤنثة.
[13] هرم بن حيان العبدي الأزدي: قائد فاتح من كبار النُسّاك. مات بعد 26 هـ.
[14] سورة الإسراء: 108.
[15] أويس بن عامر القَرَني من بني قُرن: أحد النُسّاك العُبّاد المشهورين توفي أو قتل سنة 37 هـ.
[16] يلقب بطاهر، "وهو من أجلة مشايخ الشام سماه الشبلي" حبر الشام" (الشعراني 1/133).