الحديث الحادي والثلاثون

أخبرنا شيخنا الجليل أبوالفضل علي القاري القرشي الواسطي رضي الله عنه قال: أنبأنا أبوالحسن عبدالرحمن بن محمد بن المظفر الداودي، قال: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السرخسي، قال أنبأنا أبو عبدالله محمد بن يوسف الفربري، قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا صدقة بن الفضل قال: أخبرنا ابن عيينة، قال: حدثنا زياد هو ابن علاقة أنه سمع المغيرة يقول: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: "أفلا أكون عبداً شكورا؟ " [1].

في هذا الحديث الشريف من الإلزام بالقيام بواجب العبودية غاية الغاية عند مَن يعقل، فإن السيد الأعظم، والكنز المطلسم صلى الله عليه وسلم [2]، حالة كونه سِرّ الوجودات، وسبب الموجودات، والبرزخ الوسط بين الخَلق والخالق، قد فعل في مقام عبديته ما تورّم له قدماه الشريفان، فأين نحن؟ هات أيها العارف، ابذل مهجتك اتباعاً لهذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وامحق كُلّك في اليوم والليلة ألف مرة، وأنت بعدها مقصر، العبودية وصف العارف المحض.

أي بني، قد ذكر الله تعالى في كتب الأنبياء نعت الأصفياء، يقول الله تعالى: عبدي بي وجدتني، وبي وقع بيني وبينك عقد المحبة، وبي صرت من أهل خدمتي، وبي تعرفني وبي تذكرني وتثني عليّ، وبي تتلذذ بذكري، وبي قصدتَ صحبتي، وبي قدرت أن تنظر في الآخرة إلى وجهي، عبدي نفسك لي، وروحك لي، وقلبك لي، وكُلِّيتك لي، فإن أعطيتني الكل أعطيتك الكل، وكنت لك مع الكل.

وفي الخبر: أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام: مَن الذي دعاني فقطعت رجاءه؟ ومن الذي قرع بابي فلم يفتح له؟ أنا الذي جعلت آمال خَلقي بي متصلة، وعندي مدّخرة، يا داود ما لعبدي يُعرض عني وأنا أقول إليّ، يا داود أنا محلُّ الآمال، أنا الذي جعلت طيران قلوب المشتاقين نحوي، وجعلتها في الأرض مواضع نظري، وأطلقتُها إليّ حتى تزداد شوقاً إليّ، وقرباً مني، يا داود بشِّر أوليائي وأحبائي بأني كل ساعة أُريهم كرامتي، ولطائف صنعي، وحسن امتناني عليهم، حتى لا ينسَوني، ولا يميلوا إلى غيري، وشوقتهم إليّ حتى لا يصبروا عني، وفتحت لهم أبواب أُنسي، واستجبت لهم قبل أن يدعوني، وأعطيتم قبل أن يسألوني، يا داود فوعِزَّتي وجلالي لأقعدنهم في الفردوس، لأمكننَّهم من رؤيتي حتى أرضى عنهم ويرضوا عني.

يا داود أخبر أهل الأرض بأني حبيبٌ لمَن أحبني، وجليسٌ لمن جالسني، ومؤنسٌ لمن أنِسَ بي، وصاحبٌ لمن صاحبني، ومطيعٌ لمن أطاعني، ومختارٌ لمن اختارني، وقل لعبادي هلمّوا إلى مصاحبني ومؤانستي، وسارعوا إلى محبتي وقربي.

اعلم يا داود أني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي، ويحيى زكيّي، ومحمد حبيبي، يا داود هل رأيت حبيباً يبخل على حبيبه، يا داود ألا إن طال شوق الأبرار إلى لقائي، فإني إليهم لأشد شوقاً، ألا مَن طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني.

يا داود إذا كان الغالب على عبدي الاشتياق لي، والاشتغال لي، جعلت

راحته ولذته في ذكري وعشقته، ورفعت الحجاب بيني وبينه، أحبه ويحبني، حتى لا يغفل إذا غفل الناس، ولا يسهو إذا سها الناس، ولا يلهو إذا لها الناس، أولئك الأبرار حقاً، يا داود إن طلبتني وجدتني، وكفيتك الأسباب، ولم أطالبك بالحقوق، وإن طلبت غيري شغلتك بالأسباب، وطالبتك بالحقوق، يا داود إني جعلت محبتي لمن لا ينساني بلسانه وقلبه، فإنه لا شيء أنقص عندي من الغفلة والنسيان.

يا داود إن رضيت عني رضيت عنك، وإن أفردتني بالحاجة أفردتك بالإنجاح، وإن شكرتني صيرتك ملكاً في الدارين، يا داود من لم يصبر على بلائنا لا يفزع إلينا، يا داود إني إذا أحببت عبداً من عبيدي ملأت قلبه خوفاً مني، وتشوقاً إلى لقائي، وحرصاً على طاعتي.

يا داود أوليائي في قبابي لا يعرفهم إلا أوليائي، فطوبى لأوليائي وطوبى لأحبائي، يا داود إني لا أنسى مَن ينساني، فكيف أنسى من يذكرني، يا داود إني أجود على مَن يبخل عليّ، فكيف أبخل على من يجود بي، يا داود إني أحب مَن يبغضني، فكيف أُبغض مَن يحبني، يا داود بشِّر عبادي السائلين، بأني بهم رؤوفٌ رحيم، يا داود كل حبيبٍ يحب خلوةَ حبيبه، وأنا مُطلع على قلوب أحبائي، قل للمتلذذين بذكري: هل وجدتم ربا أبرَّ مني؟ يا داود مَن أطاعني وهو يحبني أُسكنه [3] جنتي، وأُريه وجهي، ومَن عصاني ولم يحبني أدخله ناري، وأحلُّ عليه سخطي، يا داود وعزتي وجلالي لا يجاورني إلا مَن طلب جواري.

يا داود كذب من ادعى محبتي وإذا جَنَّ عليه الليل نام عني، يا داود مَن عرفني أرادني، ومن أرادني طلبني، ومن طلبني وجدني، ومن وجدني لا يختار حبيباً سواي. يا داود مَن طلبني قتلته، ومن أحبني ابتليته، ومن هرب مني أحرقته. يا داود بشر المذنبين بأني غفور، وأنذر الصديقين بأني غيور. يا داود من لقيني وهو يخافني لم أعذبه بناري، ومن لقيني وهو يحبني لم أحزنه بفراقي، ومن لقيني وهو مستحي مني لم أخجله يوم يلقاني. يا داود جنتي لمن لم يقنط من رحمتي، وغضبي عن مَن أخطأ خطيئة فاستعظمها في جنب عفوي، ولو عاجلتُ أحداً بالعقوبة إذاً عاجلت القانطين من رحمتي، وما العجلة من شأني، فها أنا مطلع على قلوب أحبائي، إذا جن الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، فخاطبوني علي المشافهة، وكلموني على الحضور.

يا داود لولا أني ربطت أرواح أحبائي في أبدانهم، لخرجت الأرواح من أبدانهم شوقاً إلى لقائي، يا داود إن من عبادي عباداً جعلتهم للخير أهلاً، وجعلت لهم المؤانسة نصيباً، طوبى لهم وحسن مآب.

ورُوي أن الله تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام: إني قضيتُ على نفسي أن لا يحبني عبدٌ من عبادي أعلم ذلك من قلبه إلا كنت سمعه وبصره ولسانه، وأُبغض إليه كل شيء، وأمنعه شهوات الدنيا ولذاتها، وطيب عيشها، وأطلع عليه في كل يوم سبعين ألف مرة، وأزيد له كل ساعة لذائذ حبي، وحلاوة أنسي، وأملأ قلبه نوراً مني، حتى ينظر إلى كل ساعة فأمسح برأسه، وأضع يدي على ألم قلبه، حتى لا يشكو منه، وأنا أسمع خفقان قلبه من الشوق إلى لقائي، والخوف من قطيعتي، وهو يقول: حقيق عليّ أن لا يسكن قلبي حتى أصل إليك يا ربي، يا يحيى وكيف يسكن قلب المشتاق وأنا غاية مُنيته، ومنتهى أمله، وهو كل ساعة يتقرب إليّ وأتقرب إليه، وأسمع كلامه، وأعلم أسفه، وأحب صوته؟ فوعِزَّتي وجلالي، لأنقبنه يوم القيامة منقباً [4] يغبطه الأولون والآخرون، ثم آمر منادياً ينادي من تحت عرشي: هذا فلان ابن فلان ولي الله وصفيُّه، دعاه الله ليُقِرَّ عينه، ثم آمر برفع الحجاب حتى ينظر حبيبي إليّ، وأقول: السلام عليك عبدي ووليي أبشِّرك.

قال: فغشي على يحيى فلم يفق ثلاثة أيام، فلما أفاق قال: سبحانك سبحانك ما أكثر توددك إلى أوليائك وأصفيائك، لا يفصل عنك الأمل، يا خير صاحب وأنيس، فنعم المولى أنتَ ونعم النصير. وروي أن الله تعالى قال في بعض كتبه: " إذا كان الغالب على قلب عبدي الاشتغال والأنس بي، رفعت الحجاب بيني وبينه في الباطن، حتى كأنه ينظر إليّ" [5].

ورُوي أن الله تعالى قال في بعض الكتب: وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمِّل غيري بالإياس، يؤمل عبدي غيري والخير كله بيدي، مَن الذي أملني فقطعتُ عنه أمله، ومن الذي رجاني فخيبت رجاءه، ومن الذي قرع بابي بالدعاء فلم أفتح له؟ عبدي تنعم بذكري، فإني نعم الحبيب لك في الدنيا والآخرة، عبدي ستذكرني إذا جربت غيري بأني لك خير من كل ما سواي، عبدي ما استحييت مني أن أعرضتَ وجهك عني، وتُقبِل على غيري؟ عبدي إلى أين تذهب وطريق الوسيلة إليّ لا إلى غيري، عبدي أين مَن دعاني فلم أجبه، وأين مَن سألني فلم أعطه، عبدي بابي لك مفتوح، عطائي لك مبذول، وأنا أرحم الراحمين.

وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: حقَّت محبتي للمتحابين من أجلي، وحقت محبتي للمتواصلين من أجلي، وحقت محبتي للمتزاورين من أجلي، يا موسى إن ذكرتني ذكرتك، وإن رضيت عني رضيت عنك، وإن كنت لي فرداً كنت لك الفرد، وإن لم تردَّ على حكمي واليتك واصطفيتك، وقرَّبتُ مقعدك مني، يا موسى إذا خِفتَ فخفني حتى أؤمنك، وإذا أحببتَ فأحبني حتى أحبك، وأحببك إلى قلوب الصالحين، وإذا نظرت فانظر إليّ حتى أنظر إليك من فوق عرشي.

وروي في بعض الأخبار أن الله تعالى يقول يوم القيامة لأوليائه: يا أوليائي طالما لحظتكم، ورأيتكم في دار الدنيا وقد غارت أعينكم، وقلصت شفاهكم، وخفت بطونكم، فكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية، أوليائي وأحبائي جزائي لكم أفضل البذل، وفضلي لكم أوفر الفضل، ومعاملتي إياكم أحسن المعاملة، ومطالبتي إياكم أشد المطالبة، أنا مؤنس القلوب، وأنا علاّم الغيوب.

[1صحيح. رواه أحمد في المسند (حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم) 18855 و 18159. والبخاري في التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورم قدماه، رقم 1078 والتفسير، باب قوله: ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً) [ الفتح 2 ] رقم 4556، و 4557 وفيه: "أفلا أحب أن أكون عبداً شكورا" والرقاق، باب الصبر عن محارم الله 6106. ومسلم في صفات المنافقين، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد، رقم 2819.

[2مطلسم: غامض [ المعجم الوسيط].

[3يجوز في المضارع الواقع جواب شرط – إذا كان فعل الشرط ماضياً- أن يرفع ويجوز أن يجزم.

[4يعده الله عز وجل بعلو المقام يوم القيامة. ونقيب القوم: ضمينهم وعريفهم. وقد نقب عليهم نِقابة: أي صار ضميناً وعريفاً لهم.

[5أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء عن الحسن البصري مرسلاً [كنز العمال 1/1872].

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.