الحديث السادس عشر
أخبرنا سيدنا فرد الوقت أبو المكارم الباز الأشهب الشيخ منصور الرباني البطايحي الأنصاري رضي الله عنه برواقه في بلدة نهر دقلا من واسط، قال: أنبأنا أبو عبدالله مالك بن أحمد بن علي الفرّا قراءة عليه، قال: أنبأنا أبو الحسن أحمد بن موسى بن الصلت، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، قال: حدثنا عبيد ابن أسباط، عن أبي سفيان، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقتدوا باللذَين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمّار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" [1]. فقد أمر عليه الصلاة والسلام بتصحيح القدوة بالشيخين العظيمين، سيدنا أبي بكر الصديق، وسيدنا عمر الفاروق رضي الله عنهما، وبالتحقق بالإهتداء بهدي عمار رضي الله عنه، فإنه مات على حب الصهر العظيم، الصنو الكريم، سيدنا علي رضي الله عنه، وأكد لزوم التمسك بالعهد، كما كان محافظاً عليه ابن أم عبد رضي الله عنه، وفي هذا حكمة الجمع بين حب الصحب والآل، سر يدركه العارفون الموفّقون.
وقد جعل صحة المتابعة له بإتباع الشيخين رضي الله عنهما، وحقيقة الاهتداء بهديه بموالاة الأمير رضي الله عنه، وجمع بين النكتتين بلزوم التمسك بالعهد، ومتى اقتدى العبد اهتدى، ومتى اهتدى تمسك بعهد الله، وهناك وقد عرف، وهل المعرفة بالله تعالى إلا هذا، فإن من اهتدى بهدي محمد صلى الله عليه وسلم واقتدى به، وتمسك بعهده، أقبل على الله، وأعرض عن غيره.
جاء في الخبر أن الله تعالى قال: " يا دنيا اخدمي مَن خدمني، واستخدمي مَن خدمك" [2] وليس من معالي الهمة الاشتغال بما فيه حظ النفس، وفي نَعْتِ النبي صلى الله عليه وسلم بعلوّ همته الشريفة (ما زاغ البصر وما طغى) [3] ولا يصل العبد إلى الله تعالى، حتى يقطع مفاوز الدنيا وما فيها، ومن زهراتها ولذاتها، وراحاتها وشهواتها، ويجاوز أودية الخَلق وما منهم، من جميل معاشرتهم وثنائهم ومَحْمَدَتِهِم، وأن الله تعالى خلق جميع ذلك ابتلاءً لكل مَن أراد أن يصير مجرداً، حتى إن التفت إلى شيء منها صار مفتضحاً في دعواه، وغرق في أودية الحُسبان [4] والخُسران، فكم مستدرَجٍ بالنعم، محجوبِ عن الخَلق، غافل عن الصدق، جاهل بعرفان النفس، يصبح ويمسي على الحسبان، فيبدو له من ذي العرش ما لم يكن يحتسب؛ قال الله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) [5] وأن من معالي الهمة، ما قيل لأبي عبد الله: لو أعطاك الله تعالى الدنيا بجميع ما فيها، ماذا تفعل بها؟ فقال: لو أمكنني أن أجعلها لقمة، وأضعها في فم كافر لفعلت، قيل: ولم؟ قال: لأن الله تعالى يبغض الكافر والدنيا جميعاً، فأفعل ذلك ليقع البغيضُ إلى البغيض.
ثم حُكي من صدق ما ادعاه أن سلطان هراة [6] بعث إليه سبعة أوقار من الحنطة، وكان الشيخ يومئذ بهراة مع أصحابه، فأطعم الخادم منها أولياءه، فقال له أبو عبدالله: أطعم الباقي فقراء العامة فقال: لا يمكن، الأبواب مغلقة، فقال: اذهب به إلى المجوس الذين هم في جوارنا قال الخادم: فخشيتُ عقوبة الله تعالى في ترك أمره، فأعطيته المجوس، فجاؤوا بكرة إليه وقالوا: ما الحكمة في إعطائك إيانا ونحن مخالفوك؟ فقال: الدنيا عدو الله، والكافر عدو الله، ولا يقرب الحبيب من الحبيب حتى يبعد من عدوِّه، قال: فأسلموا جميعاً على يديه.
حُكي أن بعض المريدين كان يمشي في البادية، فحدثته نفسه ببعض حاجتها، فإذا هو على شط بئر، فرمى ركوته في البئر ليستقي الماء فخرجت له الركوةُ مملوءةً من الذهب، فرمى بها في البئر، وقال: يا عزيزي لا أريد غيرك.
قال عمار القرشي: كنت في البادية فأردت التلبية وكنت حاجاً، فأخذت منديل شيخ لي فقددته نصفين، واتزرت بنصفه، وارتديت بالآخر، فلم تزل نفسي تنازعني ببعض الحاجة، فإذا البادية كلها فضة، فمضيت وقلت: إلهي إني أعوذ بك من كل إرادة سواك.
قال عيسى عليه الصلاة والسلام: طوبى لرجلٍ ذَكَرَ الله، ولم يذكر إلا الله، وطوبى لرجل خشي الله، ولم يخشَ إلا الله، وطوبى لعبدٍ سأل الله، ولم يسأل إلا الله.
وحكي أن الإمام بن الإمام سيدنا زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما، قال: كنت عند أبي عبدالله الحسين عليه السلام، أقرأ في بعض الكتب، وكان في يده سكين، فرأيت حرفاً خطأ، فقلت: ناولني السكين لأصلح هذا الحرف، فناولني فلما قضيتُ الحاجة رددته عليه، فقال لي: يا علي لا تعد إلى هذه مرة أخرى، فتقع إلى ذُلّ السؤال، وخساسة الهمة.
ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لثوبان رضي الله عنه: "يا ثوبان لا تسأل الناس" [7] فكان ثوبان ربما يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد ناولني إياه حتى ينزل ويرفعه.
وسأل رجل من سفيان رحمه الله كسرة فأعطاه ديناراً، فقيل له في ذلك فقال: إن كان لا يعرف هو قدر نفسه فلا أدع كرم نفسي، وإن كان هذا ترك الهمة فأنا لا أدع الجود، همم العارفين متصلة بمحبة الرحمن، وقلوبهم ناظرة إلى مواضع العز من العزيز، لا راحة لهم في دار الدنيا دون الخروج منها، وكان كثيراً ما يرى حبيب العجمي [8] رضي الله عنه يوم التروية بالبصرة، ويوم عرفة بعرفات، فقيل له في ذلك فقال: هو أقل ما أطار إليه الهمةَ أهل الهمة.
ودخل علي كرم الله وجهه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أعرابياً في المسجد يقول: إلهي أريد منك شويهة [9]، ورأى أبا بكر الصديق في زاوية أخرى يقول: إلهي أريدك، فشتان ما بين الهمتين، فكلٌّ يطير بهمته، فإذا بلغ طيرانه إلى غاية همته وقف فلم يجاوزها قال الله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته) [10] أي على نيته وهمته.
وقيل لأبي يزيد: سمعنا أنك تمرُّ على الماء، وتطيرُ في الهواء، فقال: المؤمن أعزُّ على الله من السماوات السبع، فأي عجبٍ أن يبلغ مقام طير أو حوت، قُرئ بين يدي ابن المبارك [11] قوله تعالى: ( أولئك يسارعون في الخيرات) [12] فقال: ليس أنه يسبق بدنٌ بدناً، ولا عملٌ يسبقُ عملاً، ولكن هِمةٌ تسبق هِمّة، في جميع الخيرات والإرادات.
قال بعض العارفين: مساكينُ أهل الغفلة، يشتغلون بكثرة الأعمال، ويعظمونها ويفتخرون بها، ولو أن أهل المعرفة عملوا أعمال أهل السموات والأرض من الأزل إلى الأبد كان ذلك أصغر وأحقر في أعينهم من خردلة في السماء والأرض.
قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تستكثروا طاعتكم، ولا تستقلوا ذنوبكم" [13] ورُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يمر على شاطئ البحر، فقال إلهي قد اصطكت ركبتاي، وانحنى ظهري، حبيبي فما أنت صانع بي؟ فأمر الله تعالى ضفدعاً أن يجيبه، فقال يا بن عمران. أتَمُنُّ على ربك بعبادتك إياه، وقد اصطفاك وكلمك، وقربك وناجاك، فوالذي خلقني ويراني، إني على صخرة منذ ثلاثمائة وستين سنة، أسبحه ليلا ونهاراً لا أفتر منها لحظة، ومنذ ثلاثة أيام لم آكل، وكل ساعة ترتعد فرائصي من هيبته.
وقال أبو سعيد أبو الخير كنتُ في البادية فنالني جوعٌ شديد، فطالبتني نفسي أن أسأل الله طعاماً، فقال ليس هذا من دأب المتوكلين، فطالبتني أن أسأله اصطباراً، فلما هممت به ثانياً سمعت هاتفاً يقول:
أيجهلُ أننا منهُ قريبُ وأنّا لا نُضيِّعُ مَن أتانا
يريدُ أبو سعيدَ سؤالَ صبرٍ كأنّا لا نراهُ ولا يرانا
[1] أحمد في المسند 23169 و 23312 وقال محققه: إسناده صحيح، ورواه رواية أخرى أولها: إني لست أدري ما قدر بقائي فيكم.. برقم 23279. والحاكم في المستدرك: معرفة الصحابة 3/75 عن حذيفة رضي الله عنه، وصححه ووافقه الذهبي في التلخيص. فالحديث صحيح. ولكن ثمة مقالات أسوقها للإطلاع، والتفصيل، مع تصحيحه. ففي الجامع الصغير 1/197 (برقم 1319) رواية: "اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمّار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود" وهي من الترمذي عن ابن مسعود، والروياني عن حذيفة، وابن عدي في الكامل عن أنس. وقال السيوطي: حديث صحيح. وساق الحاكم هذه الرواية في المستدرك 3/76، وعقّب عليها الذهبي بأن سندها واه. ورواهٍ الطبراني في الأوسط 3816 و 5503 و 5840 و 7177. وقال الهيثمي: "وفيه يحيى بن عبدالحميد الحمّاني وهو ضعيف" [ مجمع الزوائد (الفكر) 9/484 برقم 15606] وهو في كنز العمال 32657 و 33117 و 33679 وكشف الخفاء 1/181 برقم 482، وأسنى المطالب 46 وقال البيروتي فيه: "رواه أحمد والترمذي وحسّنه، وأعلّه أبو حاتم. وقال البزّار- كابن حزم-: لا يصح وفي رواية للترمذي – وحسّنها-:" واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم مسعود" وقال الهيثمي: سندها واه". ورواه الترمذي في المناقب، باب مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما 3663 و 3664 وقال: حديث حسن. والحميدي 1/214 برقم 449 وابن ماجه: المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل أبي بكر رضي الله عنه) 97 ورواه الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه مع اختلاف لفظ (مجمع الزوائد 9/40 برقم 14356). وابن أم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] في [ اللآلئ المصنوعة للسيوطي] وله شاهد: (يا دنيا، مري على أوليائي وأحبائي، لا تحلولي فتفتنيهم، وأكرمي من خدمني، وأتعبي من خدمك) موضوع. وله طريق آخر، ومدار الطريقين على الحسين بن داود، غير ثقة. [ ورواه] الصغاني: ( يا دنيا اخدمي من خدمني وأتعبي يا دنيا من خدمك" موضوع) [ تذكرة الموضوعات للفتني (محمد طاهر بن علي الهندي) – بيروت – ص 175]. ومري: بفتح الميم، من الباب الرابع، وهي مثل ملَّ يملّ، أي صيري مُرَّة (ذات مرارة) . ويجوز في مضارع خدَم ضمّ الدال وكسرها.
[3] سورة النجم: 17.
[4] حُسبان: حساب، ويقال هو جمع حساب، مثل شهاب وشُهبان" [ نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن العزيز للسجستاني (محمد بن عُزَيز) – دار المعرفة – ص 212.].
[5] سورة الزمر: 47.
[6] هراة: مدينة بخراسان.
[7] أحمد في المسند (حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم) 22285 و 22322 و 22266 وابن ماجه: الزكاة، باب كراهية المسألة 1837 والترغيب والترهيب للمنذري: الصدقات، الترهيب من المسألة، وتحريمها مع الغنى، رقم الحديث، 1200.
[8] أبو محمد حبيب الفارسي المعروف بالعجمي (جامع كرامات الأولياء 2/17).
[9] تصغير شيء: شويئ، أُنِّثَ وأُبدلت الهمزةُ ياء: شُوَيّة، ثم أبدلت الياء الثانية على غير قياس هاء.
[10] الإسراء: 84.
[11] عبد الله بن المبارك المروزي، أمير المؤمنين في الحديث، له كتابان مطبوعان: الزهد، والجهاد، مات سنة 181 هـ. وانظر إن شئت التفصيل كتاب شعر الفقهاء للمحقق (طبعته المكتبة العربية بحلب) ص 320 وما بعدها.
[12] المؤمنون: 61.
[13] أخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن يُنجي أحداً منكم عمله، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته.. " الحديث [ كنز العمال الكتاب الثالث من حرف الهمزة: في الأخلاق والأفعال المحمودة 5316 وانظر 5314 و 5315]. واخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله عز وجل طالباً [أحمد عبد الرحمن البنا: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (دار إحياء التراث العربي) 19/253 ] وروى السمرقندي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعظم الذنوب عند الله تعالى أصغرها عند الناس، وأصغر الذنوب عند الله تعالى أعظمها عند الناس، يعني: أعظمها عند المذنب إذا عظمه وخافه، فإنها أصغر عند الله تعالى، وأما إذا كان صغيراً في عين المذنب فهو عظيم عند الله تعالى، لأن أعظم الذنوب ما كان مُصِّرّاً عليه.. [ أبو الليث السمرقندي (نصر بن محمد): تنبيه الغافلين (القسطنطينية 1325 هـ) ص 134] وفي تنزيه الشريعة لابن عراق (القاهرة) 2/234 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت".