الحديث الثالث
الحديث الثالث
أخبرنا العبد الصالح الثقة الشيخ أبو محمد بن عبدالله بن الحسين بن أحمد بن جعفر الآمديُّ الواسطيّ، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن كاتب الوقف بواسط، قال: أنبأنا أبوالحسن محمد بن علي الرواسي إملاءً بجامع واسط، قال: أنبأنا أبو القاسم عبيدالله بن تميم، قال: أنبانا أحمد بن إبراهيم الإمام، قال: أنبأنا علي بن حرب بن زيد بن الحباب، قال: أنبأنا علي بن مَسْعدة الباهلي، قال: أنبأنا قُتادة، أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام علانيةٌ والإيمانُ في القلب والتقوى ها هُنا"، يقولها ثلاثاً ويشير بيده إلى صدره صلى الله عليه وسلم [1]، والتقوى التي تقرُّ في القلب، فتُحْكِم فيه الإيمان، هي روح المعرفة.
أي سادة، إن الله تعالى جعل لكل شيء قَدْراً، ولكل قَدْرٍ حدّاً، ولكل حد سبباً، ولكل سبب أجلاً، ولكل أجل كتاباً، ولكل كتاب أمراً، ولكل أمر معنى، ولكل معنى صدقاً، ولكل صدق حقا، ولكل حق حقيقة، ولكل حقيقة أهلاً، ولكل أهل علامة، فبالعلامة يُعْرَفُ المحقّ من المُبطل، وكل قلب أقعده على بساط تحقيقِ المعرفة، وقع بسيماء المعرفة على وجهه، ويظهر أثرها في حركاته وأفعاله وأقواله، كما قال الله تعالى: (تَعْرِفُهُم بِسِيماهمْ) [2]، وقال صلى الله عليه وسلم : " من أسرَّ سريرة ألبسه الله رداءها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر" [3].
وقيل ليحيى بن معاذ : ما بال العارفين أحسن وجوهاً، وأكثر هيبةً مِنْ غيرهم ؟ فقال: لأنهم خلوا بالله مستأنسين، وقربوا إلى الله متوجهين، وفزعوا إليه متوالهين فكساهم الله بنور معرفته، فيه ينطقون، وله يعملون، ومنه يطلبون، وإليه يرغبون، أولئك خواصّ الله السابقون، سعيهم في طاعة الله من غير علاقة، وينصحون العامة من غير طمع، مشتاقون منيبون إلى الله تعالى، قلوبُهم له وجِلة، نفوسُهم وحشية وقلوبهم عَرْشية، وعقولهم مغشيّة، وأرواحهم ياسينية، كلهم معصومٌ بلقبه عن فتنة الناس، وذِكرُ الله يحميه من شر الوسواس، صدره مشروح، وجسمه مطروح، وقلبه مجروح، وباب الملكوت له مفتوح، قلبُه مثل القنديل، وجوارحه خاضعة كالمنديل، لسانه مشغولٌ بتلاوة القرآن، ولونه مُصفَرٌّ من خوف الهجران، ونفسه ذائبةٌ في خدمة الرحمن، وقلبه زاهرٌ بنور الإيمان، نفسُه مشغولةٌ بالطلب، وروحُهُ مشغولةٌ بقُرب الرب، على لسانه وصف الربوبية، وعلى أركانه خدمةُ الديمومية، وعلى نفسه أثرُ العبودية، وفي قلبه هيبة الفردانية، وفي سِرِّه الطربُ بالألوهية، وفي روحه شغف الوجدانية، أفواهُهُم إليه ضاحكة، وأعينهم نحْوَه طامحة، وقلوبُهم به متعلقة، وهمومُهم إليه واصلة، وأسرارُهم إليه ناظرة، رَمَوْا ذنوبهم في بحر التوبة، وطرحوا طاعاتهم في بحر المِنّة، وضمائرهم في بحر العظم، ومرادهم في بحر الصفو، وهممهم في بحر المحبة، في ميدان خدمته يتقلّبون، وتحت ظلال كرمه يتنفسون، وفي رياض رحمته يرتَعُون ومن رياحين امتنانه يشمّون. ينظرون إلى الدنيا بعين الاعتبار، وإلى الآخرة بعين الانتظار، وإلى أنفسهم بعين الاحتقار، وإلى طاعتهم بعين الاعتذار لا الاستكثار، وإلى الغفران بعين الافتقار، وإلى المعرفة بعين الاستبشار، وإلى المعروف سبحانه بعين الافتخار. يرمون أنفسهم إلى البلوى، وأرواحهم إلى العقبى، وقلوبهم إلى النجوى، وأسرارهم إلى المولى. أنفسهم تاركةٌ للدنيا، وأرواحهم للعقبى، وقلوبهم مستأنسة بالذكرى، وأسرارهم بحب المولى. قلوبهم معدن التعظيم والهيبة، وألسنتهم معادن الحمد والمِدْحة، وأرواحهم مواطن الشوق والمحبة، وأنفسهم مقهورة تحت سلطان العقل والفطنة، وأكثر همتهم التفكير والعبرة، وأكثر كلامهم الثناء والمِدْحة. عملهم الطاعة والخدمة، ونظرهم إلى لطائف صنع رب العِزّة. أحدهم تراه مُصْفرّاً من خوف فراقه، ذائبَ الأطراف من هيبة جلاله، طويل الانتظار شوقاً إلى لقائه، سلك طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم، ورمى الدنيا خلف القفا، وأذاق الهوى طعم الجفا، وقام على قدم صدق الوفا، حاله في الدنيا غريب، وقلبه في صدره غريب، وسرُّه في نفسه غريب، فلا يستريح من غَمّ الغُرْبة ووَحْشَتها، ما لم يصل إلى الحبيب، فأمره عجيب، والمولى له طبيب، وكلامه وجدانيّ، وقلبه فردانيّ، وعقله ربّاني، وهمه صمَداني، وعيشُه روحاني، وعمله نوراني، وحديثه سماوي. جعل الله قلبه موضع سره وموطن نظره، وزيّنه بحُلِيّ ربوبيته، وأدخله دار الإمارة من سلطانه، يدور بالفؤاد حول عزّته، ويرتع في روضات قُدْسه، ويطير بجناح المعرفة في سرادقات غيبه، ويجول في ميادين قدرته، وحُجُبِ جبروته، لو رآه الجاهل بشأنه مات فزعاً بعد معرفته له من ساعته. علامَتُه في الدنيا أن يكون البلاءُ عنده عسلاً، والأحزان رطباً. وفي الآخرة كل واحد يقول : نفسي نفسي، وهو يقول : ربّي ربّي، مُرادي مرادي. العارف علامته أربعة : حبُّهُ الجليلَ، وتركه الكثيرَ والقليل، واتّباعُه التنزيل، وخوفه من التحويل. العابدُ ذو نَصَب، والخائف ذو هَرب، والمحب ذو شَغَب، والعارف ذو طرب.
[1] إسناده حسن. ورواه أحمد في المسند (دار الحديث) 10/437 برقم 12322 والسيوطي في الجامع الصغير 1/474 رقم 3060 عن ابن أبي شيبة ورمز إلى ضعفه ، وفي الدر المنثور 6/100 وصححه في كنز العمال للهندي (الكتاب الأول من حرف الهمزة/ حقيقة الإيمان) برقم 44 عن أحمد والنسائي وأبي يعلى. وهو في الكنز أيضاً برقم 19 عن ابن أبي شيبة. ورواه الذهبي في ميزان الاعتدال 5941 والهيثمي في مجمع الزوائد (الفكر) 1/212 برقم 160 وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه ، والبزار باختصار ، ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي ابن مسعدة ، وقد وثقه ابن حبّان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين ، وضعّفه آخرون".
[2] سورة البقرة 273.
[3] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/326 وكشف الخفاء (العرفان والغزالي) 2/226 برقم 2375 وقال الشيخ إسماعيل العجلوني: رواه ابن أبي الدنيا في الإخلاص عن عثمان رضي الله عنه بلفظ : ما من عبد يَسُرُّ سريرة إلا ردّه الله رداءها علانية ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.. قال النجم: وسنده صحيح .