الحديث الثاني
الحديث الثاني
أخبرنا شيخنا الإمام المُقري القاضي أبو الفضل علي الواسطي بمدرسته بواسط، قال: أنبأنا الشريف النقيب أبو الفوارس طرادُ بن محمد بن علي الزينبي، قراءة عليه ونحن نسمع، قال : أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد قال : أنبأنا أبو علي الحسين بن صفوان قال: أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، قال: أنبأنا الهيثم بن خارجة، قال: أنبأنا بقية بن الوليد عني أبي بكر بن أبي مريم قال: حدثني حمزة بن جندب، عن أبي يعلى شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الكيِّسُ مَن دانَ نفسه وعَمِلَ لِما بَعْدَ الموت، والعاجزُ مَن أتبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله" [1] فالعمل بسرِّ هذا الحديث، هو المعرفةُ. نعم، إن المعرفة من العبد والتعريف من الرب تعالى، وهي أشرف وأعظم الهدايا التي يُهديها إلى عباده، فإن الله تعالى إذا أراد أن يختار عبداً من عبيده ويفضّله على من سواه من خَلْقِه، ويطْلِعَ في سِرّه شمسَ المعرفةِ ينظر إليه بعين الفضل والرحمة، ويفتح له أبواب الهداية ثم يكرمه بالانتباه، ويوقظه من نومة الغافلين، ويُنعم ويمُنَّ عليه بشرح القلب، ويُذهب عنه موت القلب بالفهم، ويذهب عنه الوهم، ويُكرِمه بالحياء والخوف واليقين، ويُذهب عنه الشك وجراءة الأمن، فإذا اجتمعت في العبد هذه الخصال، أشرق فؤاده بنور، فيرى ما دون حُجُبِ الجبروت، وتشتاق إليه الجِنان، ويخمد منه لهباتُ النيران، ولو أن المعرفة نقشت على شيء ما نظر إليها أحد إلا مات مِن حسنها وجمالها، لكل أحد رأس مال، وهي رأسُ مال المؤمن.
وقال رجل لذي النون : إنّي لأحبك، فقال : إن كنتَ عرفتَ الله فحسبك الله، وإن لم تعرفه فاطلب مَن يعرفه حتى يدلك عليه.
وعندي أن المعرفة كشجرة يغرسها ملكٌ في بستانه، ثمينةٍ جواهرها، مثمرةٍ أغصانها، حلوةٍ ثمارها، طريفةٍ أوراقها، رفيعةٍ فروعها، نقية أرضها، عذب ماؤها، طيّب ريحها. صاحبها مشفقٌ عليها لعزّتها، مسرورٌ بحسن زهرتها، يدفع عنها الآفات، ويمنع عنها البليّات، وكذلك شجرةُ المعرفة التي يغرسها الله تعالى في بستان قلب عبده المؤمن، فإنه يتعهّدُها بكرمه، ويرسل عليها كل ساعة سحائبَ المِنّةِ من خزائن الرحمة، فيُمطر عليها قطراتِ الكرامة، برعد القُدرة، وبرق المشيئة، ليطهِّرها من غُبارِ رؤية العبوديةِ، ثم يُرسِل عليها نسيمَ لطائف الرأفة، مِن حُجُبِ العناية، ليتمّ لها شرف الولاية بالصّيانة والوقاية، فالعارف أبداً يطوفُ بسِرّه تحت ظلالها، ويشمُّ من رياحينها، ويقطع منها بِمنْجل الأدب ما فسد من ثمارها، وحلَّ فيها من الخبث والآفة، فإذا طال مقام سِرّ العارفِ تحتها، ودام جولانه حولها، هاج أن يتلذذ بثمارِها، فيمدّ إليها يد الصفاء، ويجتبي ثمارَها بأناملَ الحُرمةِ، ثم يأكلها بفم الاشتياق، حتى تغلبه نارُ الاستغراق، فيضرب يدَ الانبساط إلى بحر الوداد، ويشرب منه شربةً يسكر بها عن كل ما سوى الحقّ سكرةً لا يُفيق منها إلا عند المعاينة، ثم يطير بجناح الهِمّة، إلى ما لا تدركه أوهام الخلائق.
وقيل للواسطي : أي الطعام أشهى ؟ قال: لُقمةٌ مِن ذِكر الله تعالى، تُرفَعُ بيد اليقين، من مائدة الخُلْدِ، عند حُسن الظّن بالله تعالى. قال النساج [2]: يخرجُ أكثر أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا طيباتها المقصودة، قيل: وما هي ؟ قال: سرورُ المعرفة، وحلاوةُ المِنّة، ولذائذُ القُربة، وأنسُ المحبّة.
وقال محمد بن واسع : حُقَّ لمن أعزّه الله بمعرفته أنْ لا يُذِلّ نفسه لغيره، وحُقَّ لِمَنْ والاه الله بولايته أن يقوم بحقه، وحُقَّ لمن أكرمه الله بصحبته أن لا يميل إلى غيره، ولا يعمل بهوى نفسه.
وقال أبو يزيد: إن في الليل شراباً لقلوب العارفين، تطيرُ به قلوبهم حبّاً لله وشوقاً إليه، ألا إنّ الناظرين إليه لا إلى غيره ذهبوا بصفوةِ الدنيا والآخرة.
أقول: وهذا الشراب هو التحيُّر، وهو على ضربين : تحير وَحشة وتحير دَهشة، فتحيُّرُ الوحْشةْ للمطرودين، وتحيُّرُ الدهشةِ للعارفين المشتاقين، يا دليل المتحيرين زدني تحيُّراً.
وقال أبو يزيد: إن في الليل شراباً لقلوب العارفين، تطيرُ به قلوبهم حبّاً لله وشوقاً إليه، ألا إنّ الناظرين إليه لا إلى غيره ذهبوا بصفوةِ الدنيا والآخرة.
أقول: وهذا الشراب هو التحيُّر، وهو على ضربين : تحير وَحشة وتحير دَهشة، فتحيُّرُ الوحْشةْ للمطرودين، وتحيُّرُ الدهشةِ للعارفين المشتاقين، يا دليل المتحيرين زدني تحيُّراً.
[1] أحمد في المسند (مسند شداد بن أوس رضي الله عنه) 13/272 برقم 17059 والترمذي: صفة القيامة، باب: الكيس من دان نفسه (الباب 26) رقم 2461 وقال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن. وابن ماجه: الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له 4260 والحاكم 4/251 و 1/57 وصحّحه في الموضعين ووافقه الذهبي في الجزء الرابع، وخالفه في الجزء الأول، من أجل راوٍ في سنده ، هو ابن أبي مريم ، قال الحاكم عنه " واهٍ " ويُروى: ".. وتمنّى على الله الأماني" [ الجامع الصغير للسيوطي (الفكر) 2/303 برقم 6468 وصحّحه ].
[2] أبو الحسين خير النّساج : أصله من سُرَّ من رأى ، إلا أنه أقام ببغداد وعمّر طويلاً ، وكان رضي الله عنه يقول: العمل الذي يبلغ فيه العبد إلى الغايات هو رؤية التقصير والعجز والضعف (الطبقات الكبرى للشعراني 1/136). وقيل كان اسمه محمد بن إسماعيل ، وإنما سُمّي (خيراً النّساج) ، لأنه خرج إلى الحج ، فأخذه رجل على باب الكوفة وقال: أنت عبدي ، وإسمك خير ، وكان (محمد بن إسماعيل) أسود ، فلم يخالفه ، واستعمله الرجل في نسج الخزّ.. (الرسالة القشيرية 89).