الحديث السادس والثلاثون
أخبرنا شيخنا العارف بالله على القاري الواسطي، قال: أخبرنا أبو بكر الوراق، قال: أخبرنا أبو محمد يحيى بن صاعد، عن أحمد بن عبد المؤمن، عن علي ابن الحسن المروزي، عن أبي حمزة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده قال: ربنا ولك الحمد" [1]. في هذا الحديث من أسرار الموافقة لداعي الله، الذي يرد شأنه على كل لسان، ما يفهمه أهل الذوق من أرباب المحبة.
أي بني، قيل لواحد: ما حقيقة المحبة؟ قال: الموافقة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، واجعل حبك أحب الأشياء إليّ" [2]، وقال الإمام أبو بكر الصديقرضي الله عنه: مَن ذاق من خالص حب الله استوحش عمن سواه، وترك لأجله كل ما يهواه. ويقال: جفاء العدو غمٌّ نازل، وجفاء الحبيب سمٌّ قاتل. وكان ذو النون المصري كثيراً ما يقرأ القرآن، ثم بعد ذلك يشتغل بالحديث، فسمع في المنام:
إن كنتَ تزعمُ حبي فلِمْ هجرتَ كتابي
أما تدبرتَ ما فيـ ـهِ من لطيفِ عتابي
قال/ فترك الحديث، وأقبل على قراءة القرآن.
وروي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً في الدنيا وأهلها، فيصدك عن طريق محبتي، أولئك قطاع الطريق على عبادي. ويقال: أصل المحبة هو المَحْوُ، إلا أنها على ثلاثة مدارج: العام، والخاص، وخاص الخاص، فأما العام فمحو القلب عن حب الذنوب والمعاصي، والخاص محو القلب عن حب الدنيا وأهلها، وخاص الخاص محو القلب عن حب ما دون الله تعالى.
وقال يحيى بن مُعاذ في بعض مناجاته: إلهي لا تعذب قلباً أنتَ حبيبه، إلهي إن تعذبني عذبتَ مَن أحَبك، وإن أهنتني أهنتَ مَن أحبك، وإن أكرمتني أكرمتَ مَن أحَبك.
وحكي أن أبا يزيد تكلم يوماً بكلام أهل المحبة، فجاء طائر فلم يزل يدنو منه حتى جلس بين يديه، ثم ضرب بمنقاره على الأرض وسال منه الدم حتى مات.
وحكي أن واحداً من العارفين، مر برجل من العيّارين [3]، يضرب عبداً له بعود، والعبد يضحك في وجهه، فقيل له: يا هذا يضربك السيد بالسياط وأنت تضحك. قال: من حلاوة حبه لا أجد ألم الضرب، فصاح العارف، وخر مغشياً عليه.
وقال يحيى: ليس بصادق في حبه مَن لم يحفظ حدوده، ولم يعظم حرمته، ولم يعرف مِنَّته. وحكي أن رجلاً جاء إلى عبدالواحد بن زيد [4] فقال: أخبرني بأقرب الأعمال إلى الله تعالى، وأعظمها عنده زلفى، فقال: أن تحب ما يحب الله، فقال: اشرح لي صفة المحبة، فبكى عبدالواحد وقال: أتحتمل؟ قال: ما شاء الله، فوصف له شيئاً من المحبة وحقائقها، فغُشي على الرجل، فلما أفاق قال: سبحان الله مَن يستأهلُ هذا، أو مَن يطيقُ الاستقامة على تحقيق المحبة؟ فقال: رُبَّ قلبٍ قصد محبوبه قصداً لا يدركه الريحُ العاصف، ولا البرق الخاطف، حتى وصل إلى محبوبه، قيل: أو هل يكون للمحب علامة؟ قال: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وكذلك المحبة إذا دخلت القلب، تلاشت النفس بكل ما فيها عن صفات الإنسانية، تحت سلطانها، فاحترق ما في القلب من غير الله بنيرانها.
قيل لبعضهم: ما بال المحبين كالمبهوتين؟ قال: لأنهم ذاقوا حلاوة محبته وسمعوا أصوات عجائب حسن دعوته، حتى طارت عقولهم وقلوبهم إليه، وصاروا مدهوشين به، هيهات أين الحب، وأين صفوة الحب، وأين حقائق الحب، وأين مَن يستحق الحب؟ ألا إنّ مَن أحَبَّه لا يصبر عنه طرفةَ عين.
إنَّ المُحبَّ نهارُهُ مستوحشٌ بين العبادِ يسيرُ كالمُتفردِ
فالعينُ منهُ قريرةٌ بحبيبِهِ يرجو لقاءَ الواحدِ المتوحدِ
يا حُسنَ موكبهم إذا ما أقبلوا نحو الإلهِ مع النبي محمدِ
[1] البخاري: صفة الصلاة، باب: إلى أين يرفع يديه، رقم 705. ومسلم.: الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع رقم 392.
[2] الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه: الدعوات، الباب الثالث [ من دعاء داودعليه السلام] رقم 3485 وورد ضمن حديث معاذ رضي الله عنه في التفسير (تفسير سورة ص) رقم 3233، وإحياء علوم الدين (المعرفة) 1/319 قال الحافظ: وهي في الدعاء للطبراني و 2/296 و 4/295. ومجمع الزوائد 7/177. وانظر الزهد لابن المبارك: الجزء الثالث، باب: ما جاء في التوكل ص 144 رقم 430.
[3] العيار: الذي يخلي نفسه وهواها لا يردعها ولا يزجرها [ المعجم الوسيط].
[4] عبد الواحد بن زيد: أدرك الحسن البصري [ الشعراني 1/46] والحسن متوفى سنة 110 هـ.