الحديث الثاني والثلاثون
أخبرنا شيخنا الشيخ الجليل أبوالفضل علي الواسطي قال: أنبأنا أبوالحسن عبدالرحمن الداودي قال: أنبأنا أبومحمد عبدالله السرخسي قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد بن يوسف الفربري، قال: أنبأنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا عبدالله بن مسلمة، قال: حدثنا عبدالعزيز بن أبي سلمة عن هلال بن أبي هلال عن عطاء بن يسار عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن هذه الآية التي في القرآن: ( يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) [1] قال في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً. وحِرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخّاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عُمياً، وآذاناً صُماً، وقلوباً غُلفاً [2]. ولنا بهذا السند عن البخاري قال: حدثنا خالد بن مخلد قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا عبدالله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: :" الرحم شجنة من الرحمن، فقال الله: مَن وصلكِ وصلته، ومن قطعكِ قطعته" [3].
فالحديث الأول أفاد أن الله يُسعف نبيه صلى الله عليه وسلم حتى يقوِّم العوجاء بكلمة لا إله إلا الله، والحديث الثاني أفاد أن الرحم من أشعة نور الرحمن، مَن وصلها اتصل، ومَن قطعها انقطع، والجمع بين السرّين في الحديثين، هو فتح القلب والعين والأذن بالتوحيد الخالص وإيصال القلب بالرحمن، بحبل الرحمة والشفقة على الخَلق، وبهذا تَعيَّن الأقرب فالأقرب، يفهم ذلك العارف، فكلمة التوحيد تفيد الإيمان بالله، وصلة الرحم تفيد التخلق بخُلُق الله، وهو الرحمن، وإليه المرجع في المَبطن والعِيان، وبه المستعان، وعليه التكلان، وما ذاك إلا لإعظام أمر الله، وهو من إعظام الله.
قال يحيى بن معاذ: اعرف حُرمة من لا تعرف الفضلَ إلا منه، ولا ترجو الراحةَ إلا منه، واستحي منه حق الحياء، واذكر امتنانه إذ خلقك ولم تكُ شيئاً، وزيّنك بنور المعرفة، حتى كأنك لم تزل تعرفه، ولولا فضله ورحمته عليك، كيف كنت تعرفه بأنه مولاك، من غير أن تراه بعينك؟ ثم طَهَّرَ سرّك وضمائرك من الشك والشبهة والنفاق، وألبسك من أحسن لباسه، وتوَّجَك بتاجه بلا سؤال، ثم دعاك إلى دار السلام، ويقال: لا يزال المؤمن عظيماً ما أعظم الله، وعظَّم أمره، وعظّم أولياءه، وعرف قدرهم وحرمتهم.
وحُكي أن رجلاً من ملوك الدنيا قال لشقيق [4] سل حاجتك قال: إني لأستحي من ربي أن أسألك، ومولاي ناظر إليّ يقول سَل حاجتك بلا حشمة، حتى أرضى عنك، ولا تسأل غيري فأمقتك. ودخل على رابعة البصرية [5] جماعةٌ من الزهاد وفيهم سفيان الثوري [6]، فرأوا لها حالة رثة، فقال لها بعضهم: أما تُرسلين إلى بعض مواليك ليعطيك شيئاً؟ فقالت: والله إني لأستحيي أن أسأل الدنيا ممن يملكها، فكيف ممن لا يملكها. وقيل لأبي عبدالله: ما صفة المريدين؟ قال: أن يكونوا مع الناس بأبدانهم، وقلوبهم تحت العرش كأنهم يرون ربهم فوق عرشه، ويستحيون أن يسألوه شيئاً سواه.
وفي الخبر: " أرأيتم سليمان وما أعطي من الملك، فإنه لم يرفع رأسه إلى السماء، تخشعاً لله وحياءً منه، حتى قبضه الله" [7]. وقال عامر بن عبد قيس [8] ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليّ منه، وأنَّ نظره إليّ قبلَ نظري إلى ذلك الشيء. وكان يحيى بن معاذ رحمه الله إذا قرأ : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) [9] قال: إلهي هذا قربك إلى أعدائك، فكيف قربك إلى أوليائك؟
وقال شهر بن حَوشب [10] رحمه الله: ما رأيت إبراهيم التيمي [11] رافعاً رأسه وبصره إلى السماء قط، حتى قبضه الله حياءً منه، ومرض العارف داود الطائي [12] رضي الله عنهوهو في جوف بيته، فقيل له: لو خرجتَ إلى صحن الدار حتى تهب عليك ريح الهواء، قال: إني لأستحي من الله أن يراني وأنا أطلب الراحة لنفسي في الدنيا. ويقال: كان في مصر رجل مجذوم فقال: إنه يعرف اسم الله الأعظم، فقيل: له: لو دعوت الله باسمه الأعظم أن يكشف عنك هذا البلاء؟ قال: إني لأستحي منه أن يكون لي مراد بخلاف مراده.
وكان سيدنا الإمام الحسين بن الإمام علي عليهما السلام، إذا توضأ ليصلي أصفر لونه، وارتعدت فرائصه، فقيل له في ذلك، فقال: حُقَّ لمن وقف بين يدي رب العرش أن يتغير لونه حياءً من إجلاله. وكان مسلم بن يسار [13] يصلي، فانهدمت زاوية المسجد ولم يشعر. وكان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ترتعد فرائصه عند قضاء أمانة لم تحملها السموات والأرض، وهي الصلاة. ولدغت امرأةً حيةٌ في أربعين موضعاً ولم تشعر، من حلاوة الصلاة.
وكان مسلم بن يسار يصلي، فوقع الحريق في بيته، وفزع الناس إليه، حتى أطفؤوها ولم يشعر. قال الجريري [14] إني لأستحيي من الله أن أنام تكلفاً حتى يصرعني النوم. وحكي أن معاذة بنت عبدالله [15] ما رفعت بصرها إلى السماء أربعين عاماً، وكانت تقول: عجبت لعين تنام، والحبيب إليها ناظر، وربما كانت تتفكر في جلالته وعظمته، حتى يُغشى عليها. وكان داود عليه الصلاة والسلام لا يرفع رأسه إلى السماء هيبةً من إجلاله تعالى. وقال ابن سنان [16]: ما اتخذ الله إبراهيم خليلاً حتى ألقى في قلبه إجلالاً منه، بحيث يسمع خفقان قلبه كالطير في الهواء.
علامة السعداء ثلاث: التمسك بسنة النبي المختار صلى الله عليه وسلم ، والصحبة مع الأولياء الأخيار، والحياء من الملك الجبار، ومكتوبٌ في الزبور: يا داود إني لأستحيي من عبدي أن أرده إذا دعاني، وإن عبدي لا يستحيي أن أدعوه فلا يجيبني.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" [17] قال الفضيل: إلهي ارحم مَن لو عقل لم يتكلم من الحياء. وحكي أن عامر ابن قيس كان يصلي، فاكتنفته السباع، فلما انفلتَ من صلاته مسح ظهورهم بيده، وقال: أنتم كلاب الله، وأنا عبد الله، فقيل له: هل هِبتَ منهم؟ قال: إني لأستحيي من ربي أن أهاب شيئاً دونه.
وقال صالح المُرّي [18]: رأيت ربي في المنام ليلة، قلت: لبيك لبيك، وصرت كالبعوضة من إجلاله، فقال: يا صالح إني لخبير بالمريدين، وإني أسمع أنينهم، وأرى حركاتهم، وإني لمطلع على سرائرهم وضمائرهم، قال: فدهش عقلي حياءً منه. وحُكي أن الحسن البصري صعد موضعاً يؤذن للصلاة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله غُشي عليه من إجلاله.
وقالت عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه" [19] وقال بعض أهل المعرفة في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " جُعلت قرة عيني في الصلاة [20]، لم تكن الصلاة قرة عينه، ولكن إذا قام للصلاة رأى فيها ما تقرُّ عينه، لقوله: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه".
وقال الفضيلُ بن عياض: صليتُ خلف ذي النون صلاة العصر، فلما أراد أن يكبِّر، رفع يديه وقال: الله، فبهت [21] وبقي كأنه جسد لا روح فيه من إجلاله، ثم قال: أكبر، فظننت أن قلبي ينخلع من هيبة تكبيره.
قل حياء الناس من ربهم فكلهم يُظهرُ تقواهُ
ليس يبالي الخبثَ في ثوبِهِ مَن بالى [22] في عاجل دنياهُ
يخافُ أن يمقته أهلُهُ ولا يبالي مَقتَ مولاهُ
[1] سورة الأحزاب: 45.
[2] أخرجه بهذا اللفظ الإمام البخاري في التفسير (سورة الفتح) باب: ( إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) [ الفتح 8] رقم 4558 وفي البيوع، باب كراهية السخب في السوق، رقم 2018 وأوله في البيوع: " عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: ( يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) وحرزاً للأميين.. " الحديث. وفظ: سيء الخُلق. سخّاب: يرفع صوته على الناس. غُلفاً: غطتها ظلمة الشرك.
[3] البخاري: الأدب، باب مَن وصل وصله الله، رقم 5642 وفتح الباري 10/417 وأحمد في المسند 2956 و 8954 و 9832 و 9244. ويجوز في شين " شجنة" الضم والكسر والفتح، فهي من المثلثات، وهي في الأصل: عروق الشجر المشتبكة. من الرحمن: اشتُق اسمها من هذا الاسم الذي هو صفة من صفات الرحمن. والمعنى: ( أن الرحم أثر من آثار رحمته تعالى مشتبكة بها، فمن قطعها منقطعٌ من رحمة الله عزَّ وجلّ، ومَن وصلها وصلته رحمة الله تعالى) [ تعليق الدكتور مصطفى البغا على الحديث بهامش الجزء الخامس ص 2232 (صحيح البخاري، مؤسسة الخدمات الطباعية في بيروت).
[4] شقيق بن إبراهيم الأزدي البلخي، توفي سنة 194 هـ.
[5] رابعة بن إسماعيل العدوية، ماتت بحدود 180 هـ. وقيل سنة 135 هـ.
[6] سفيان بن سعيد الثوري ( 97 – 161 هـ).
[7] أخرج ابن عساكر عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما شد سليمان طرفه إلى السماء، تخشعاً، حيث أعطاه ما أعطاه) [ كنز العمال 11/32332].
[8] عامر بن عبدالله المعروف بابن عبد قيس العنبري البصري التابعي.. مات في خلافة معاوية رضي الله عنه في بيت المقدس" [ جامع كرامات الأولياء 2/136].
[9] سورة ق: 16.
[10] شهر بن حوشب الأشعري (20-100 هـ).
[11] إبراهيم التيمي: " توفي في حبس الحجاج سنة اثنتين وتسعين" [ طبقات الشعراني 1/41].
[12] داود بن نصير الطائي، توفي سنة 165 هـ.
[13] مسلم بن يسار، مفتي البصرة، توفي سنة 108 هـ.
[14] أبو محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري، مات سنة 311 هـ [ طبقات الشعراني 1/94].
[15] معاذة بنت عبد الله العدوية، تابعية محدثة، ماتت سنة 83 هـ.
[16] أبو جعفر أحمد بن حمدان بن علي. مات سنة 311 هـ [ الشعراني 1/103].
[17] البخاري: الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، رقم 50 وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومسلم الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، رقم 9 و 10 وأخرجه برقم 8 عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[18] أبو بشر صالح المري: انظر فيه طبقات الشعراني 1/46.
[19] إحياء علوم الدين (دار المعرفة) 1/150 وقال الحافظ زين الدين العراقي: أخرجه الأزدي في الضعفاء من حديث سويد بن غفلة مرسلاً: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الأذان كأنه لا يعرف أحداً من الناس".
[20] مسند أحمد 10/12233 و 12234 و 11/12991 والنسائي في عشرة النساء 7/61.
[21] بَهِتَ: دهش وتحيَّر.
[22] خُطفت الألف المقصورة في بالى ليستقيم الوزن، وهي ضرورة شعرية غير معهودة في شعر الأقدمين.